مجلس تدبر سورة الفجر~
سورة الفجر سورة مكية ، ذكر الله -عز وجل -فيها حال بعض الأمم السابقة وقصص الأقوام الفانية، خاصة من كذبوا وتكبروا وطغوا، ثم ماجرى لهم من العذاب والنكال.
ثم ذكر الله سبحانه الآخرة وأهولها وشدائدها وانقسام الناس يوم القيامةإلى سعداء وأشقياء، ومنازل هؤلاء وأولئك.
( والفجر ) : الفجر هو النور الساطع الذي يكون في الأفق الشرقي قرب طلوع الشمس.
وأقسم الله بالفجر لأنه ابتداء النهار، وهو انتقال من ظلمة دامسة إلى فجر ساطع، وأقسم الله به لأنه لا يقدر على الإتيان بهذا الفجر إلا اللهعز وجل.
وأقسم الله بالفجر لأنه يترتب عليه أحكام شرعية مثل إمساك الصائم ، ودخول وقت صلاة الفجر
﴿وَلَيالٍ عَشرٍ﴾ :
وفي ليالي عشر رمضان ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وفي نهارها، صيام آخر رمضان الذي هو ركن من أركان الإسلام.
وفي أيام عشر ذي الحجة، الوقوف بعرفة، الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان، فما رئي الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يومعرفة، لما يرى من تنزل الأملاك والرحمة من الله لعباده، ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة، وهذه أشياء معظمة، مستحقة لأن يقسم اللهبها.
﴿وَالشَّفعِ وَالوَترِ﴾: قيل أن المراد به كل الخلق فالخلق إما شفع وإما وتر، والعبادات إما شفع وإما وتر.
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ أي: وقت سريانه وإرخائه ظلامه على العباد، فيسكنون ويستريحون ويطمئنون، رحمة منه تعالى وحكمة.
﴿هَل في ذلِكَ قَسَمٌ لِذي حِجرٍ﴾
﴿هَلْ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور ﴿قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ أي: [لذي] عقل؟ نعم، بعض ذلك يكفي، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
﴿أَلَم تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ﴾
يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ بقلبك وبصيرتك كيف فعل بهذه الأمم الطاغية
﴿إِرَمَ ذاتِ العِمادِ﴾
﴿إِرَمَ﴾ القبيلة المعروفة في اليمن ﴿ذَاتِ الْعِمَادِ﴾ أي: القوة الشديدة، والعتو والتجبر.
﴿الَّتي لَم يُخلَق مِثلُها فِي البِلادِ﴾
﴿الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا﴾ أي: مثل عاد ﴿فِي الْبِلَادِ﴾ أي: في جميع البلدان [في القوة والشدة]، كما قال لهم نبيهم هود عليه السلام: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْجَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ أي: وادي القرى، نحتوا بقوتهم الصخور، فاتخذوها مساكن.
﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَاد﴾ أي: [ذي] الجنود الذين ثبتوا ملكه، كما تثبت الأوتاد ما يراد إمساكه بها.
﴿الَّذينَ طَغَوا فِي البِلادِ﴾
الطغيان مجاوزة الحدّ ، ومعنى الآية : زادوا عن حدهم واعتدوا على عباد الله..
﴿فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾ وهو العمل بالكفر وشعبه، من جميع أجناس المعاصي، وسعوا في محاربة الرسل وصد الناس عن سبيل الله.
﴿فَصَبَّ عَلَيهِم رَبُّكَ سَوطَ عَذابٍ﴾
فلما بلغوا من العتو ما هو موجب لهلاكهم، أرسل الله عليهم من عذابه ذنوبًا وسوط عذاب.
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ لمن عصاه يمهله قليلًا، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
﴿فَأَمَّا الإِنسانُ إِذا مَا ابتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقولُ رَبّي أَكرَمَنِ﴾
يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه جاهل ظالم، لا علم له بالعواقب، يظن الحالة التي تقع فيه تستمر ولا تزول، ويظن أن إكرامالله في الدنيا وإنعامه عليه يدل على كرامته عنده وقربه منه.
﴿وَأَمّا إِذا مَا ابتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزقَهُ فَيَقولُ رَبّي أَهانَنِ﴾
وأنه إذا ﴿قدر عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ أي: ضيقه، فصار يقدر قوته لا يفضل منه، أن هذا إهانة من الله له.
﴿كَلّا بَل لا تُكرِمونَ اليَتيمَ﴾
فرد الله عليه هذا الحسبان: بقوله ﴿كَلَّا﴾ أي: ليس كل من نعمته في الدنيا فهو كريم علي، ولا كل من قدرت عليه رزقه فهو مهان لدي، وإنماالغنى والفقر، والسعة والضيق، ابتلاء من الله، وامتحان يمتحن به العباد، ليرى من يقوم له بالشكر والصبر، فيثيبه على ذلك الثواب الجزيل،ممن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل.
وأيضًا، فإن وقوف همة العبد عند مراد نفسه فقط، من ضعف الهمة، ولهذا لامهم الله على عدم اهتمامهم بأحوال الخلق المحتاجين، فقال: ﴿كَلَّابَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ الذي فقد أباه وكاسبه، واحتاج إلى جبر خاطره والإحسان إليه.
فأنتم لا تكرمونه بل تهينونه، وهذا يدل على عدم الرحمة في قلوبكم، وعدم الرغبة في الخير.
﴿وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين﴾ أي: لا يحض بعضكم بعضًا على إطعام المحاويج من المساكين والفقراء، وذلك لأجل الشح على الدنياومحبتها الشديدة المتمكنة من القلوب.
﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ﴾ أي: المال المخلف ﴿أَكْلًا لَمًّا﴾ أي: ذريعًا، لا تبقون على شيء منه.
﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ أي: كثيرًا شديدًا، وهذا كقوله تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَالْآخِرَةَ﴾
﴿كَلّا إِذا دُكَّتِ الأَرضُ دَكًّا دَكًّا﴾
﴿كَلَّا﴾ أي: ليس [كل] ما أحببتم من الأموال، وتنافستم فيه من اللذات، بباق لكم، بل أمامكم يوم عظيم، وهول جسيم، تدك فيه الأرض والجبالوما عليها حتى تجعل قاعًا صفصفًا لا عوج فيه ولا أمت.
﴿وَجاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾
ويجيء الله تعالى لفصل القضاء بين عباده في ظلل من الغمام، وتجيء الملائكة الكرام، أهل السماوات كلهم، صفًا صفا أي: صفًا بعد صف،كل سماء يجيء ملائكتها صفا، يحيطون بمن دونهم من الخلق، وهذه الصفوف صفوف خضوع وذل للملك الجبار.
﴿وَجِيءَ يَومَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَومَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسانُ وَأَنّى لَهُ الذِّكرى﴾
﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ تقودها الملائكة بالسلاسل.
فإذا وقعت هذه الأمور فـ ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ﴾ ما قدمه من خير وشر.
﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ فقد فات أوانها، وذهب زمانها.
﴿يَقولُ يا لَيتَني قَدَّمتُ لِحَياتي﴾
يقول متحسرًا على ما فرط في جنب الله: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ الدائمة الباقية، عملًا صالحًا، كما قال تعالى: ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَالرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾.
وفي الآية دليل على أن الحياة التي ينبغي السعي في أصلها وكمالها ، وفي تتميم لذاتها، هي الحياة في دار القرار، فإنها دار الخلدوالبقاء.
﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ﴾ لمن أهمل ذلك اليوم ونسي العمل له.
﴿وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ فإنهم يقرنون بسلاسل من نار، ويسحبون على وجوههم في الحميم، ثم في النار يسجرون، فهذا جزاء المجرمين.
وأما من اطمأن إلى الله وآمن به وصدق رسله، فيقال له: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ إلى ذكر الله، الساكنة [إلى] حبه، التي قرت عينها بالله.
﴿ارجِعي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرضِيَّةً﴾
﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ﴾ الذي رباك بنعمته، وأسدى عليك من إحسانه ما صرت به من أوليائه وأحبابه ﴿رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ أي: راضية عن الله، وعن ماأكرمها به من الثواب، والله قد رضي عنها.
﴿فَادخُلي في عِبادي ﴾
أي ادخلي في عبادي الصالحين، من جملتهم
﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ وهذا تخاطب به الروح يوم القيامة، وتخاطب به حال الموت [والحمد لله رب العالمين].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق