بعض من لطائف الدرر في تفسير سورة الزمر
تفريغ اللقاء الأول~
﷽
سورة الزمر تعلمنا الإخلاص في العبادة
والإخلاص في الوحدانية
والإخلاص في التوبة
والإخلاص في الدعوة
والإخلاص في الحرص في طلب الجنة ..
فكلنا يريد الجنة لكن أين القلب الذي يخلص في طلب الجنة ..
نسأل الله أن يبلغنا ذلك بفضله ومنه وجوده وكرمه..
اسم السورة:
سورة الزمر، وسميت بذلك لأن الله تعالى ذكر فيها زمرة السعداء من أهل الجنة، وزمرة الأشقياء من أهل النار.. نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة
فضل السورة :
هذه السورة من المثاني..ومما ورد في فضل المثاني مارواه أحمد وغيره عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: أُعطيت مكان التوراة السبع، وأُعطيت مكان الزبور المئين، وأُعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل..
السورة مكية، وهي تناقش قضية التوحيد كموضوع أساسي ثم تنتقل بنا إلى النظر في الآيات الكونية والنفس الإنسانية ، وتعرج بنا إلى مشاهد يوم القيامة والجنة والنار بين ترغيب وترهيب في صور تقشعر منها الجلود..
محور السورة :
عقيدة التوحيد والإخلاص..
مناسبات السورة :
لو تأملنا سورة الزمر جاء التأكيد على إنزال القرآن الكريم بالحق( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق )
وفي خاتمة السورة التأكيد على فصل القضاء بالحق ( وقضي بينهم بالحق )
وكذلك مناسبتها بما قبلها :
ختمت سورة ص بقوله تعالى ( إن هو إلا ذكر للعالمين *ولتعلمن نبأه بعد حين )
ثم بيّنت الزمر أن هذا الذكر تنزيل من الله العزيز الحكيم ..
المقطع الأول من ١- ٤:
الحديث عن المعجزة الكبرى ( القرآن ) وأنه منزل من عند الله والعبادة لا تكون لسواه سبحانه..
تنزيل الكتاب :
الكتاب هو القرآن ، وسُمي كتاباً لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ فالله سبحانه يخبرنا أن هذا القرآن تنزيل من عنده سبحانه ..
العزيز في ملكه ، وللعزيز ثلاث معاني:
١/ العزيز : الغالب( ولله العزة ولرسوله )
٢/ عزيز : قوي ( فتقول العرب أرض عزاز أي : قوية شديدة )
٣/ عزيز : الامتناع عن أن يناله سوء..
الحكيم في صنعه : أي فيما صنع
( الذي خلق سبع سماوات طباقا ماترى في خلق الرحمن من تفاوت )
والدليل على كمال شرعه ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافاً كثيرا)
في قوله تعالى ( تنزيل ) من هذه الآية نعلم أن القرآن كلام الله مُنزل غير مخلوق..
( مِن الله) في هذه الآية دليل على علو الله سبحانه
وقد دلّ استقراء القرآن العظيم على أن الله جل وعلا إذا ذكر تنزيله لكتابه أتبع ذلك ببعض أسمائه الحسنى..
ولا يخفى أن ذكره جل وعلا هذه الأسماء الحسنى العظيمة بعد ذكره تنزيل هذا القرآن العظيم يدل بإيضاح على عظمة القرآن وجلالة شأنه ..
فهل أنا معظّمة له ؟
هل استشعرنا عظمة هدا الكتاب؟
أين نحن من تلاوته ؟ وحفظه ؟ وتدبره ؟ والاستشفاء به ؟!
حقيقة
لماذا ذرفت عيناه - صلى الله عليه وسلم - حين قُرئ عليه : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد )؟!
ولماذا مرض عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين سمع سورة الطور فـ صار الناس يعودونه شهرًا ؟!
ولماذا أسلم مطعم بن عدي لما سمع : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) ؟!
ولماذا اهتدى الفضيل بن عياض حين سمع قوله - تعالى -: ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ) ؟!
ولا تزال نفس الآيات تتلى على مسامعنا ؛ بل ونقرؤها .. لكننا لا نرى أثرًا لها في قلوبنا !
بل ولماذا ينفث على مريضنا بآيات من القرآن فلا نرى لها شفاء ؟!
بينما شُفي صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قرئ عليهم القرآن، وشُفي ابن القيم - رحمه الله - لما رقي نفثًا بالفاتحة ؟!
ولم لا نرى لحزن أحدنا جلاءً ، ولهمّه انكشافًا ، وهو يقرأ القرآن ! ويدعو بدعاء المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الصادق المصدوق ؟!
القرآن هو القرآن .. والدين حق .. وقوله - صلى الله عليه وسلم - حق ..
لكن .. حين خلف من بعد أولئك خلف أقاموا حروف القرآن وضيعوا حدوده ، قوم غفلوا عن الحكمة من تنزيل القرآن ، فعطّلوا أعمال القلب من التفكر والتدبر الذي يورث الخشوع والطاعة والعمل .
ثم أعاد الله لغرض الاهتمام ولفت الانتباه ( إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين )
فاعبد الله مخلصاً له الدين :
إخلاص الشيء تنقيته من الشوائب فالمعنى : أن تنقي دينك من كل شرك..
له الدين : الدين هو العمل المخصوص وهو العبادة الذي يعمله الفرد ويبقى الثواب من الله سبحانه وتعالى ..
الإخلاص قضية حساسة في عبادتنا وتعاملنا مع الله وتحتاج إلى مراجعة النية وتجديدها ..
( ألا لله الدين الخالص ):
نستفيد من هذه الآية غنى الله عز وجل الغنى التام
ووجه ذلك : إذا كان الله لا يقبل إلا ماكان خالصاً دلّ على غناه عن عمل العباد..
ويجب هنا أن نلاحظ أن العبادة دين يدين به الإنسان فيعمل ليثاب، وينبغي للإنسان حين العبادة أن يلاحظ هذا المعنى وهو أن يعمل ليثاب لأنه إذا استشعر هذا الأمر فسوف يتقن العمل لأن الثواب على قدر العمل، وإن حسن العمل حسن الثواب..
كيف نحقق الإخلاص في نفوسنا:
١/ استحضار أهمية الإخلاص كما ذكرها الله في كتابه .
٢/ مصاحبة المخلصين الصادقين فإن لصحبتهم تأثيراً عجيباً، بعض الناس عندما تجلس معه تستشعر الإخلاص والصدق في عمله من تصرفاته وكلامه فينفعك الله بذلك أكثر ما ينفعك من القراءة في عشرين كتاب.
٣/ اكثري من الدعاء اللهم ارزقني الإخلاص في القول والعمل.
٤/ استحضار النية قبل البدء بالعمل وأثناءه وبعده.
٥/ الاجتهاد في إخفاء الطاعات وعدم التحدث بها..
الوصايا العملية ~
١/ تعظيم القرآن الكريم
٢/ الإخلاص في الوحدانية لله..
نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص والقبول في القول والعمل ، وأن يجعل أعمالنا كلها صالحة ولوجهك خالصة
و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
اللقاء الثاني من ٥- ٩
﷽
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ...
موضوع المقطع من ٥- ٧ :
من آيات الله في الآفاق والنفس..
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}
في هذه الآية ( ألا هو العزيز الغفار) تنبيه للدلالة على كمال الاعتناء بالمضمون وكأنه قيل : تنبهوا ياعبادي فإني أنا الغالب على أمري الستير لذنوب خلقي[ فأخلصوا عبادتكم ولا تشركوا بي أحدا]..
ومن تلك اللفتة إلى الكون الكبير ينتقل إلى لمسة في أنفس العباد ويشير إلى آية الحياة القريبة في أنفسهم والأنعام المسخرة لهم ..
{ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ }
الخطاب لبني آدم : من نفس واحدة ( أي آدم )
ثم ️ تفيد الترتيب بمهلة لأن خلق هذا الزوج متأخر عن خلق آدم فالله سبحانه أبقاه حتى عرف أنه محتاج إلى زوجة يسكن إليها وجعل هذه الزوجة من نفس آدم من ضلع آدم ويفيدها ( منها ) للابتداء فهي من نوعه وجزء منه..
{ وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج }
خلق الأنعام ثمانية أزواج وقد بينها في سورة الأنعام { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ....} الأنعام ١٤٣-١٤٤
الزوج بمعنى الصنف( وآخر من شكله أزواج )
وخص هذه الأنعام دون غيرهامن البهائم لعموم نفعها ولاختصاصها بأشياء لا يصلح لها غيرها كالأضحية والعقيقة ووجوب الزكاة فيها، فهنا دلالة على ماشرفت به عن سواها..
{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ}
لمّا ذكر ابتداء الخلق الأول ذكر ابتداء الخلق الثاني وهو النوع الإنساني..
وذلك ( في) بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق أي : خلقاً متطوراً نطفة ثم علقة ثم مضغة..
في ( ظلمات ثلاث ) ظلمة البطن ، ظلمة الرحم ، ظلمة المشيمة ..
هذه الظلمات من إبداع خلق الله وتمامه إذ أن أشعة الضوء لو وصلت إليه لأفسدته ، كما أن الله جعل ظهر الجنين إلى بطن أمه ووجهه إلى ظهرها وهذا من أجل ألاّ يتضرر وجهه بالصدمات التي تكون على بطن الأم ويكون الظهر وقاية لوجهه فإذا أراد الله عز وجل إخراجه تقلب هذا الجنين حتى يكون رأسه هو الأسفل فيخرج سهلا بداية من رأسه إذ لو خرج من عند قدميه لكان ذلك خطراً عليه ..
المهم أن الله سبحانه وتعالى اعتنى به عناية تامة ونحن في بطون أمهاتنا وعند خروجنا ولهذا قال ( في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم )
لماذا قال سبحانه( ذلكم ) ولم يقل هذا ؟
وفي ذلك إشارة إلى علو منزلة الله جل في علاه ولذلك جاء باسم الإشارة المفيد للبعد..
ذلكم : الذي خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر وخلقكم وخلق الأنعام ( الله ربكم ) المألوه المعبود الذي رباكم ودبركم وأنتم موقنون بذلك..
{ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} فكما أنه الواحد في خلقه وتدبيره لاشريك له في ذلك فهو واحد في ألوهيته..
{ لا إله إلا هو } فأني تصرفون
أنى : استفهام المراد به التوبيخ والتعجب أي : كيف تصرفون عن عبادة الله عز وجل وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا هو ..
{ إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ }
إن تكفروا بالله فإنكم لن تضروا الله لأنه غني عنكم غنىً تام وأن الله سبحانه لم يأمر العباد بعبادته والإخلاص له لحاجته وإنما لمنفعتهم هم لأنهم يثابون على هذا أعظم الثواب وينجون من العذاب..
أما الله سبحانه لا يضره إذا كفر كل الخلق < ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم مانقص ذلك من ملكي شيئا > ..
الله غني عنا ولا يضره شي سبحانه
{ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أن الكفر أمر لا يليق بالعباد فلا يرضى لهم أن يقوموا به لأن الله خلقهم فكيف يليق بالإنسان أن يصرف العبادة لغير الخالق
{ وَإِن تَشْكُرُوا } الله فتؤمنوا { يَرْضَهُ لَكُمْ} أي الشكر
والشكر هو القيام بطاعة المنعم اعترافاً له بالجميل ويكون بالقلب واللسان والجوارح ..
فالقلب: أن يؤمن الإنسان أن هذه النعم تفضلاً من الله.
وباللسان : أن يتعبد الله بكل قول شرعه ومن ذلك : أن يتحدث بنعمة الله ..
وبالجوارح : أن تظهر نعمة الله عليك في جوارحك فتؤمن الإيمان المستلزم للعمل الصالح ..
والإيمان لا يكون إيماناً حقيقياً حتى يستلزم القبول والإذعان ، فالقبول بما أمر به ، والإذعان هو الانقياد التام ..
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الزمر | الآية: ٧]
أي لاتحمل وازرة : آثمة وزر أخرى ويقصد بها النفس المكلفة ..
ثم إلى ربكم مرجعكم : أي بعد الشكر من الشاكر والكفر من الكافر، يكون المرجع إلى الله وحده وذلك يوم القيامة ..
( فينبئكم ) يخبركم
والنبأ لا يكون إلا في الأمر الهام بعكس الخبر ..
وتأملي اللطف والإحسان حيث قال( ينبئكم ) لم يقل يؤاخذكم لأنه ثبت في الصحيح أن الله عز وجل يخلو بعبده المؤمن بيقرره بذنوبه حتى يعترف فيقول الله قد سترتها عليك في الدنيا وانا اغفرها لك اليوم..
إنباء بدون مؤاخذة
والأنباء وعد عليه والمؤاخذة إليه.
( إنه عليم بذات الصدور ) أي الله عليم بالقلوب وذكر هذه الجملة بعد ( فينبئكم بما كنتم تعملون ) لأن الحساب يكون على مافي القلب كما في قوله ( وحصل مافي الصدور ) ( يوم تبلى السرائر ) فالمدار يوم القيامة على مافي القلب أما في الدنيا فالمدار على الأعمال الظاهرة..
فعلى الإنسان أن يعتني بصلاح قلبه قبل صلاح جسمه ..
ثم لما ذكر سبحانه وتعالى أساس خِلقة الإنسان وضعفهم في بطون أمهاتهم وحين ولادتهم وأن الله سبحانه هو الذي يحفظهم بحفظه ويكلأهم بعنايته بين حالتهم لما استووا بين حالهم في الضراء والسراء وكيف ضعفهم وقلت ثباتهم ..
{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ}
مس أي أصاب الإنسان المراد به الكافر لقرينة السياق وإلا اللفظ عام ( ضر ) نكرة أي ضر يكون
دعا ربه : قال ربه ولم يقل الله ؟
لأنه في هذه الحال وإصابته بالضر دعا ربه وأنه لا منجا منه إلا إليه فيدعو ربه معتقداً أنه رب يملك ماشاء ويتصرف بما شاء ..
دعا تضرعاً واستكانة إليه ( منيباً إليه ) راجعاً إليه فإذا دعى ربه منيباً إليه كشف الله ضره لأنه سبحانه يقول ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)
وإجابة الله للمضطر تشمل الكافر والمسلم
يجيب : لأن رحمته سبقت غضبه وفي حال الضرورة يصدق لجوء الإنسان إلى ربه لأنه يعلم أنه لا يكشف الضر إلا الله فإذا رجع إلى الله أجابه ..
{ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ }
هنا إشارة إلى أنه تغمره النعمة ويستمر فيها وقتاً ينعم بها ( خوّله نعمة ) أعطاه نعمة ( منه ) من للابتداء أي نعمة صادرة من الله ..
( نسي ) ترك ماكان يدعوا إليه من قبل وهو الله
والنسيان هو الغفلة المتضمنة للترك
فانظري لحاله: لمّا جاءه الضر توجه متضرعاً إلى الله يطلب منه كشف الضر ولما أجابه الله سبحانه وكشف عنه الضر بل وزاده وأعطاه نعمة ( نسي ماكان يدعو إليه )
وجعل لله أنداداً: أي شركاء في العبادة
{قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار}
تمتع : أمر تهديد
بكفرك: اكفر وتمتع بكفرك تمتع البهائم ( إنك من أصحاب النار )
وما أسرع وصولهم إلى النار لأن الدنيا قليلة ( قل تمتع بكفرك قليلاً ) بقية أجلك ( إنك من أصحاب النار )
{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ }
أمن هو قانت : أي قائم بالطاعات ، ويطلق القنوت على معاني متعددة :
الخشوع ( وقوموا لله قانتين )
ومنها دوام الوتر ودوام الطاعة.
ومعنى القانت في هذه الآية هو الطاعات
آناء الليل : ساعاته
( ساجداً وقائماً) في الصلاة
ونص ذكر السجود والقيام دون غيره من الأركان كالركوع والقعود ؟
لأن السجود شريف بهيئته ، والقيام شريف بذكره
كيف ؟
أفضل هيئة للمصلي أن يكون ساجداً ولهذا كان أقرب مايكون العبد من ربه وهو ساجد..
والقيام شريف بذكره( القرآن ) كلام الله وكلامه أشرف الكلام ، وكان ﷺ إذا سجد يسمع له أزيز كأزيز المحجن ، وكان لا يمر بآية عذاب ووعيد إلا تعوذ، ولا رحمة إلا سأل، ولا آية تسبيح إلا سبح، وهو يدل على وجوب إحضار القلب عند التلاوة والخشوع فيها..
{ يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه }: لمّا ذكر أعمالهم الفعلية ذكر أعمالهم القلبية : أنهم يخافون من الله ويرجون جنته..
ومعنى الآية : هل يستوي من هو قائم ساجد متعلق قلبه بين خوف ورجاء كمن هو عاصي بالكفر ..
{ إنما يتذكر أولوا الألباب } إنما أداة الحصر أي : لا يتذكر ولا يتعظ إلا أهل العقول النيرة فهم الذين يؤثرون الأعلى على الأدنى ..
جعلنا الله من أولي الألباب الذين نوّه الله بذكرهم في كتابه ..
قال سفيان الثوري: إذا جاء الليل فرحت وإذا جاء المهار حزنت.. كيف لا ، وقيام الليل شرف المؤمن كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه..
تأملي : هذه اللذة التي تُنسي آلام الجسد.
وقال ﷺ : إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه وذلك كل ليلة ..
فأين أصحاب الحاجات والكربات ؟!
فكل من قام الليل يصلح نشيط النفس سالي الروح لأنه له موعد كل ليلة مع الري جل وعلا..
نسأل الله أن يقربنا منه( ويرضى عنا وعنكم )
ونحمد الله أن يسر لنا هذا المجلس فإن التالي والسامع له في حضرة الري سبحانه على بساط القُرب .. والغفلة في هذا المقام من الحرمان والله ..
فنسأل الله أن يجعلنا من قرآنه على انتباه واستحضار آناء الليل وأطراف النهار العاملين به بالعشي والإبكار إنه الجواد الكريم الرحمن..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
اللقاء الثالث من ١٠- ٢١
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [٣٩ - الزمر | الآية: ١٠]
قل يا محمد أو أي إنسان وبلغ نداء الله للذين آمنوا..
والإيمان هو الإقرار المستلزم للقبول والإذعان..
اتقوا ربكم : بأن تطيعوه وتجتنبوا نواهيه وتفعلوا أوامره ..
وفي قوله ( ياعبادِ) تشريفاً لهم بالإضافة إليه بالضمير الدال على اللطف وشدة الخصوصية ..
للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة:
الإحسان يكون في عبادة الله ، ويكون في عباد الله..
فهو في عبادة الله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذا إتمام الإخلاص وتمام المتابعة ..
أما الإحسان إلى عباد الله يكون بالمال والبدن وقد فسّره بعضهم بأنه: كف الأذى عن الناس وبذل الندى( المعروف) وطلاقة الوجه..
في هذه الدنيا حسنة: فكل إحسان يفعله الإنسان يلقى عليه جزاء..
وتأملي هنا هذا الخطاب الذي خاطب الله به سلحانه وتعالى عباده ( يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا) فانتبه الناس لما سيأتي بعد النداء ( اتقوا ربكم) أي اجعلوا بسنكم وبين عذاب الله وقاية ..
ثم رغبهم واستحث همتهم( للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ) فتاقت الأنفس لهذا الجزاء وهذه الحسنة ، ولكن منهم من ضاقت به الأرض واستضعف في الأرض ولا يستطيع فعل الإحسان الذي يكافأ عليه بحسنة ، فيأتيه الرد وتقوم عليه الحجة وأرض الله ( واسعة ) فلا يقعد بكم حب الأرض وإلف المكان وأواصر النسب والصحبة عن الفرار إلى دار الهجرة فهي من جملة الإحسان الذي ذكره اللهفي الآية لأن الهجرة تدل على صدق العامل فالمهاجر يدع أهله ووطنه لله ويدع أماكن المنكرات لله فإذا ضاقت بك الأرض يوماً فثم السعة ..
ولأن الهجرة من الأرض عسيرة على الأنفس وترك البيت الذي يعرفه إلى بيت لا يعرفه أمر شاق قال سبحانه ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )
قال الأوزاعي : ليس يوزن لهم ولا يكال وإنما يغرف لهم غرفا..
فسبحان العليم بخفايا الصدور
وعظم أجر الصبر لعظم شأنه
والصبر أنواع :
صبر على طاعة الله
وصبر عن معصية الله
وصبر على أقدار الله
أعلاها الصبر على طاعة الله ثم الصبر عن معصية الله ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة..
فهذا الترتيب والتقسيم حسب أنواع الصبر نفسه، أما من حيث الصابر فإن الإنسان قد يعاني من الصبر على المعصية أكثر من الصبر على الطاعة وكذلك بالنسبة للبلاء
ولكن من حيث نوع الصبر نفسه فأفضلها الصبر على طاعة الله لأن الصبر على الطاعة يحتاج جهد نفسي وبدني..
والصبر عن المعصية يحتاج جهد نفسي فقط لأن ترك المعصية قد يسبب ألم نفسي
أما الصبر على أقدار الله المؤلمة فهو أدناها لأن الأمر ليس إليك فهو أمر قد تم ..
{ قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين }
قل يا محمد وأعلن العبودية لله وحده وهنا إشارة إلى مقام النبي ﷺ وأنه عبد يؤمر ويُنهى وليس له من الربوبية شيء
( أن أعبد ) أتذلل له مخلصاً من الشرك نقياً من براثن الشرك
{ وأمرت لأن أكون أول المسلمين } من أمة محمد ﷺ
{ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم }
وهنا يقف الرسول ﷺ في مقام العبودية لله وحده ويعلن خوفه من الله ومن عذاب يوم القيامة إن خالفه وعصى أمره، فهذا حال الرسول ﷺ المغفور له ماتقدم من ذنبه وما تأخر..!
فكيف بحالنا نحن المسرفين ؟!
[ وقفة مع الخوف ]
كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس خوفاً من الله، وبعده الصحابة رضوان الله عليهم، ومن كان بالله أعرف كان له أخوف
ولذلك أجمع أهل العلم على أن أفضل المنازل منزلة الخوف مع الإخلاص, فمن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل, والذي يخاف الله عز وجل يعمل, لأن المؤمن يحسن العمل ويخاف, والمنافق يسيئ العمل ويرجو، ولذلك فرق عند أهل السنة والجماعة بين أهل الإرجاء وأهل العمل الصالح من ناحيتين:
1- أهل العمل الصالح يخافون ويعملون.
2- وأهل التواكل والإرجاء يسيئون ويرجون.
وفرق بين الطائفتين وبون بين الفريقين.
خوف النبي صلى الله عليه وسلم من ربه عند قراءته القرآن
وروى ابن جرير الطبري وابن مردويه عنه صلى الله عليه وسلم: {أنه مرّ به بلال بن رباح -المؤذن, داعي السماء, الذي أخرج من أوضار الوثنية إلى نور الإسلام- قبل صلاة الفجر, فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم يبكي, فقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي ماذا يبكيك؟ قال: آيات أنزلت عليّ ويل لمن قرأها ولم يتدبرها، ثم تلى عليه الصلاة والسلام: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191]}.
والذي يتلو مثل هذه الآيات ولا يتدبر ولا يتفكر؛ فكأن قلبه طبع عليه إلا ما شاء الله, والطبع يصيب القلوب بالمعاصي وبالغفلة وبالشهوة, فنسأل الذي بيده مفاتيح القلوب أن يفتح على قلوبنا وقلوبكم,
خوف عائشة رضي الله عنه
يقول أحد التابعين: مررت بـعائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها وأرضاها، الصادقة بنت الصدّيق, المطهرة المبرأة من فوق سبع سموات, زوجة رسولنا عليه الصلاة والسلام، التي أتاها في يوم واحد كما يقول عروة بن الزبير من معاوية بن أبي سفيان وهو خليفة في دمشق ثمانون ألف دينار فوزعتها وهي صائمة، ونسيت نفسها من الإفطار! فقالت لها مولاتها وجاريتها: يا أم المؤمنين! كيف لم تبق دنانير نأخذ بها إفطاراً؟
قالت: والله إني نسيت, يا سبحان الله! من ثمانين ألف دينار تنسى نفسها!- قال هذا التابعي وأظنه الأسود بن يزيد: [[مررت بها وهي تقرأ في صلاة الضحى: ((فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)) [الطور:27-28].
قال: وسمعت لبكائها نشيجاً، فذهبت والله إلى السوق وعدت وهي تقرأ مكانها في ركعة واحدة]] عائشة رضي الله عنها وأرضاها التي بقيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, أما ليلها فمناجاة للحي القيوم وتلاوة وذكر ودعاء, وأما نهارها فصيام.
عائشة التي كانت تربي بكلماتها ما لا يربيه ألف أستاذ وألف داع وداعية اليوم, كانت كلماتها من نور؛ لأنها تربت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما أعقلها وما أعلمها بالله تبارك وتعالى!
{ قل الله أعبد مخلصاً له ديني }
ذكر في أول السورة فاعبد الله مخلصاً له الدين ثم أمره في الثانية بأن يعلن عذه العبودية مخلصاً له الدين ..
{ فاعبدوا ماشئتم من دونه }
تهديد وتحدي
أما وجه التهديد: في قوله( فاعبدوا ماشئتم من دونه)
لأنه قال بعدها ( قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة )
أما كونه تحدياً: فإنه ذكره أن يعبد الله مخلصاً له الدين وتحداهم بأن يعيدوا ماشاؤوا فهو لن يشرك في عبادة ربه أحدا..
فلما أعلن لهم وحدانية العبادة لله وهددهم بأن من يعبد غير الله يكون له الخسران الذي ليس كمثله خسران..
{ قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة }...
وخسران النفس بدخولها النار ، وخسران الأهل فيه قولان :
١/ قال ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما:
ليس من أحد إلا وقد خلق الله له زوجة في الجنة فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله
٢/ فخسران النفس بتخليده في النار وأن خياته الدنيا لم يستفد منها في الآخره فخسر نفسه وعمره وذهب هباءً منثورا، وأما خسارة الأهل في الدنيا وذلك بأنه لم يلتقي بهم في الآخرة إما لكونه في النار ، وأله في الجنة فلا يلتقون
أو لكونه في النار هو وأهله ، لكنهم لا يلتقون كلٌ منهم في دركات النار يُعذب -نسأل الله السلامة -
{ ألا ذلك هو الخسران المبين } توكيد ذلك إشارة للبعد لإنه خسران سحيقثم حصر بأنه هو الخسران لا غيره( المبين ) البين الذي لا يخفى على أحد ..
{ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل..}
لهم قطع من النار كالسحاب العظيم محيط بهم ..
من فوقهم ظلل: طباق من النار.. نسأل الله السلامة
{ ذلك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون }
جعل ما أعده لأهل الشقاء من العذاب داعياً يدعوا عبادة إلى التقوى وزجراً عما يوجب العذاب
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ [الزمر | الآية: ١٧]
البشرى ماتحصل به البشارة وهو الخبر السار لأن الإنسان إذا اُخبر بما يسره تهلل واستنار وجهه..
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [الزمر | الآية: ١٨]
هذه علامتهم أنهم لا يضيعون فرصة
( يستمعون ) ولن يقل يسمعون !
لأن الاستماع الإنصات مع المتابعة بخلاف السماع
سؤال :
هل في القرآن حسن وأحسن ؟
لنعلم أن الواجب أحسن من المندوب والمندوب أحسن من مطلق الحسن وقد دلت على ذلك آيات كثيرة :
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ [النحل | الآية: ١٢٦]
الأمر للجواز ، والله لا يأمر إلا بالحسن فدل ذلك على أن الانتقام حسن ولكن بيّن الله أن العفو خير منه وأحسن في قوله { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}
والأمثلة على ذلك كثيرة ..
أولئك الذين هداهم الله: هداية إرساد وتوفيق
وأولئك هم أولوا الألباب : كرر اسم الإشارة أولئك للدلالة على علو منزلتهم ( أولوا الألباب )أصحاب العقول لأن الإنسان كلما كان للحق اتبع كان أكمل عقلاً..
وأمام مشهد عذاب النار يعرض الله مشهد من نعيم أهل الجنة وتصوير حالهم ومساكنهم( لهم غرف من فوقها غرف مبنية ..)
أي منازل عالية مزخرفة من حسنها وبهائها يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها.. وهذه الغرف ليست للكسالى وإنما للعاملين لله المخلصين
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ [٣٩ - الزمر | الآية: ٢١]
أنزل من السماء ماء وهذا من رحمة الله أن اسكنه في الأرض إذ لو بقى على وجه الأرض لأنتنولكنه سبحانه حفظه في باطن الأرض..
ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ثم يهبج بفعل الرياح وتراه مصفراً وييبس
إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب : الذين يتذكرون فيعتبرون إلى أن الدنيا كهذا الزرع تكون خضرة نضرة حسناء ثم تعود عجوز شوهاء.. فالسعيد من كان حاله إلى خير
وفي الآية التحذير من الانهماك في الدنيا..
نسأل الله أن نكون عباداً له مخلصين صادقين وأن يرزقنا سبحانه مخافته وخشيته، وأن يجعلنا في السر خير من العلن، وفي الخلاء خير من الجلاء فإنه القدير على ذلك..
والحمد لله رب العالمين
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
اللقاء الرابع
تفريغ اللقاء الرابع من لطائف الدرر في تفسير سورة الزمر ~
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسولنا محمد وآله وصحبه أجمعين..
[أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ]
من شرح الله صدره للإسلام يجد نفسه قابلاً لشرائع الإسلام ، مسروراً بها يفرح إذا أدى طاعة من طاعات الله ، ويحزن إذا فعل معصية ..
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن هذه الآية فقيل: كيف يشرح صدره يارسول الله؟
قال صلى الله عليه وسلم: نور يقذفه فيه فينشرح له وينفسح.
قالوا: فهل لذلك أمارة يعرف بها؟
قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل النزول.
نسأل الله أن يقذف النور في قلوبنا ويشرح به صدورنا .
[فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله]
إذا رأيت من قلبك عدم لين من ذكر الله فعالج نفسك حتى لا ينالك الوعيد
[الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم...]
أي ترتعد وتخاف عند سماع آيات التخويف والوعيد وهذه صفة الأبرار عتد سماع كلام الجبار..
والخشية : هي الخوف مع العلم بعظمته وجلاله..
[ ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله]
فتطمئن إلى ذكره وتأنس به وتكون هذه الليونة غايتها ذكر الله..
[أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ماكنتم تكسبون]
أفمن شأنه أن يقي نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه سوء العذاب يوم القيامة لكون يده صارت مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن في الجنة؟!
قال عطاء: يرمى مكتوفاً في النار فأول شيء تمس منه وجهه.
وقال مجاهد: يجر على وجهه في النار ، وفي أثناء هذا العذاب الشديد يأتيهم التقريع من خزنة النار[ وقيل للظالمين ذوقوا ماكنتم تكسبون]
[ ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلا]
ضوب الله مثل عبد مملوك لشركاء كثيرون ليسوا متفقين على أمر من الأمور بل هم مختلفون متنازعون كل له طلب يريد تنفيذه ويريد الآخر غيره!
فما تظنين حال هذا الرجل مع هؤلاء الشركاء المتشاكسين .
ثم ضرب الله مثل الرجل الثاني أو العبد الثاني فهو هالص لرجل واحد لا يملكه أحد غيره فالعبد يعرف مقصود سيده فخلصت له الراحة التامة.
ثم أتى بالاستفهام:[ هل يستويان مثلاً]
هل يستوي حال الأول والثاني؟!
فهذا مثل الشرك والتوحيد فالمشرك يعبد شركاء متشاكسون، يدعوا هذا ثم يدعوا هذا فتراه لا يستقر له قرار، ولا يطمئن قلبه لموضع.
والموحد مخلص لربه قد خلصه الله من الشرك لغيره فهو في أتم راحة وأكمل طمأنينة، فأين هذا من هذا ؟!
ولما كان هذا المثل ظاهراً بيناً جلياً قال [ الحمد لله]
على إقامة الحجة عليهم
[ بل أكثرهم لا يعلمون] أي فلهذا يشركون بالله
[ إنك ميت وإنهم ميتون]
قال قتادة: هذه الآية نُعيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعت إليهم أنفسهم.
ووجه هذا إعلام الصحابة بأنه أي - الرسول صلى الله عليه وسلم - سيموت وهذه الآية استشهد بها الصديق-رضي الله عنه - عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى [ ومامحمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل]
حتى استيقن الصحابة من موته.
ومعنى الآية : أن كل من على الأرض سيموت لا محالة وسيجتمعون عند الله تعالى في الدار الآخرة ، وتختصمون فيما كان بينكم في الدنيا..
قال الزبير بن العوام رضي الله عنه : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم[ إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون]
قال الزبير: أي رسول الله، أيكرر علينا ماكان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟
قال صلى الله عليه وسلم : نعم .. ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه..
قال الزبير: والله إن الأمر لشديد !
فلنستعد لهذا اليوم، ولنعلم أننا سنختصم وسيقضى بيننا، فلنتقي الله في أنفسنا فإن الكرب عظيم والذنوب كثيرة..
وقال السعدي رحمه الله في تعليقه على [ كل نفس ذائقة الموت]
هذا كأس لا بد من شربه وإن طال بالعبد المدى!!
نسأل الله أن يحسن وفادتنا إليه.
[ والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هن المتقون]
يشمل صدق المقال
وصدق الفعال
وصدق النية
فإن جميع خصال التقوى ترجع إلى الصدق بالحق والتصديق به.
[ لهم مايشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ]
لهم أي للمتقين مايشاءون عند ربهم من أنواع الثواب مما لا عين رأيت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر..
[ ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ]..
وهذا من كرم الله تعالى..
[ أليس الله بكاف عبده ]
في هذه الآية الحث على تحقيق العبودية فإنه بتحقيق العبودية تتحقق لك الكفاية من الله..
اللهم اقمنا مقام العبودية الحقة بين يديك
~~~~~~
اللقاء الخامس والأخير
تفريغ اللقاء الخامس من لطائف الدرر في تفسير سورة الزمر ~
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسولنا محمد وآله وصحبه أجمعين..
[ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ..] أي ولئن سألت هؤلاء الضُلّال الذين يخوفونك بالذين من دونه وأقمت عليهم دليلاً من أنفسهم فقلت ( من خلق السماوات والأرض )؟!
من أوجدها على هذه الصنعة البديعة ؟
( ليقولن الله) فهم يقرون بأن خالقهم هو الله عز وجل فهم مقرون بتوحيد الربوبية غاية الإقرار ..
ثم اسألهم يا محمد سؤال آخر بعدما أقروا بأن السماوات والأرض خالقهن الله العظيم سبحانه
( قل أفرأيتم ) أي أخبروني
( مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ )؟!
أخبروني عن هذه الأصنام التي تدعون من دون الله هل تملك كشف ضر أراده الله لي، وتمسك رحمة أرادها الله عز وجل لي؟
قال مقاتل: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا.
[قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ]
لا يهمني أن تهددوني بهذه الأصنام فإن حسبي الله أي : كافيني عمن سواه فعليه يعتمد المعتمدون في جلب مصالحهم ، ودفع مضارهم ، فالذي بيده وحده الكفاية هو حسبي سيكفيني كل ما أهمني وما لا اهتم به..
[عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ] ٣٨
التوكل هو الاعتماد على الله عز وجل بجلب المنافع ودفع المضار مع الثقة بالله..
ثم انظري وتأملي في هذه الآية الكريمة وكيف أخذنا الله إلى حقيقة فطرية واضحة فإذا كان الله هو خالق السماوات والأرض فهل يملك أحد أو شيء في هذه السماوات والأرض أن يكشف ضراً أراد الله له أن يصيب عبداً من عباده ؟!
أم يملك أحد من السماوات والأرض أن يحبس رحمة أراد الله أن تنال عبداً من عباده؟!
الجواب القاطع: لا
فإذا تقرر هذا فمالذي يخشاه الداعية إلى الله؟
فليس أحد بكاشف الضر عنه؟
وليس أحد بمانع الرحمة عنه ؟
فمالذي يقلقه أو يخيفه أو يصده عن طريقة؟!
إنه متى استقرت هذه الحقيقة في قلب مؤمن فقد انتهى الأمر بالنسبة إليه، وقد انقطع الجدل وانقطع الخوف وانقطع الأمل إلا في جناب الله سبحانه فهو كافٍ عبده وعليه يتوكل وحده..
[قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون]
إنها الطمأنينة بعدها الثقة واليقين ، والطمانيتة التي لا تخاف ، والثقة التي لا تقلق ، واليقين الذي لا يتزعزع ..
[ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]
أن في النوم دلالة واضحة على البعث فإن النوم موتة صغرى يبعث الله منها النائم،
وفيها الحث على التفكر وأنه مفتاح العلم
[وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ]
وإذا ذكر الله وحده دون آلهتهم اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ،
وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون :
والآية تصف حال النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه حين كان المشركون يهشون ويبشون إذا ذكرت آلهتهم، وينقبضون وينفرون إذا ذكرت كلمة التوحيد..
ولكنها تصف حالة نفسية تتكرر في شتى البيئات والأزمان ، فمن الناس من تشمأز قلوبهم وتنقبض نفوسهم كلما دُعوا إلى الله وحده..
وكلما وجد الإنسان الاشمئزاز من شريعة الله ففيه شبه من هؤلاء..
[وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ]..
أي ظهر لهم من عقوبات الله وسخطه وشدة عذابه مالم يكن في حسابهم ، وفي هذا وعيد شديد وتهديد بالغ ..
قال مجاهد : عملوا أعمالاً توهموها أنها حسنات فإذا هي سيئات..
وقال سفيان الثوري:
ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء ، ويل لأهل الرياء.. هذه الآية وقصتهم ..
[فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ]
الفتنة : في إزالة الضر عنه، وحصول الخير والنعمة..
فكم من إنسان كان مستقيماً وبالنعمة ينحرف ، وفي الحديث أن الله تعالى قال: ( إن من عبادي من لو أغنيته لأفسده الغنى وإن منهم من لو أفقرته لأفسده الفقر)
فالله بكل شيء عليم ( ولكن أكثرهم لا يعلمون )
أكثر الناس غافلون عن كون الله يبتليهم بالنعم ويقولون أن النعم دليل الرضى .
ويقولون لو أن الله غاضب علينا لما أعطانا ولكن قد يكون هذا من الاستدراج ..
[ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية كائنة ماكانت، إنها الدعوة للأوبة ، دعوة العصاة المسرفين الشاردين في تيه الضلال..
يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ العباد أن ربهم يناديهم بـ ياعبادي ..
ربكم ينسبكم إليه فهذا أشرف الشرف وأعظم الفخر..
[ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]
التقوى سبب النجاة من عذاب الله..
((ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ... ))
نفخ النفخ معروف, والنافخ إسرافيل, وأبهمه للتعظيم, لأن الإبهام يأتي للتعظيم كما في قوله تعالى: (( فغشيهم من اليم ما غشيهم ))
فإن هذا يدل على عظم ما غشيهم, النفخ لا شك أنه أمر عظيم, ولهذا لم يبين من النافخ, كل ما في القرآن من النفخ في الصور يأتي بصيغة اسم المفعول (( ويوم ينفخ )) (( ونفخ في الصور )).
وقوله : (( فصعق )) قال : " مات (( من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ))
يقول : (( إلا من شاء الله )) ألا يصعق فإنه لا يصعق, وقد اختلف العلماء من هذا المستثنى ؟ فذهب المؤلف وجماعة إلى أن المستثنى الحور والولدان وهم في الجنة, وقيل : الحور والولدان والملائكة, ولا يمنع منه كلام المؤلف لقوله : " وغيرهما " وقيل : الله أعلم.
[ابن عثيمين -رحمه الله]
ومن فوائد هذه الآية الكريمة أيضا :
أن الصعق شامل لكل من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله, وهم أقل ممن يصعق, لأن الغالب أن الاستثناء يكون أقل من المستثنى منه .
ومن فوائد الآية الكريمة :
إثبات المشيئة لله عز وجل, وهي كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى, ولم ينكرها أحد من الناس إلا فيما يتعلق بأفعال العباد, حيث أنكرها القدرية .
ومن فوائد الآية الكريمة :
أنه ينفخ في الصور مرتين لقوله : (( ثم نفخ فيه أخرى )) .
ومن فوائدها : أن النفخ في الآخرة أو الأخرى يكون بها البعث لقوله : (( فإذا هم قيام ينظرون )) .
ومن فوائد الآية :
أن القيام من القبور يلي النفخ في الصور مباشرة, نأخذها من إذا الفجائية .
ومن فوائد الآية الكريمة : أنهم أي الذين يقومون, يقومون وكأن لهم زمنا طويلا في القيام بدليل أنه أتى في ذلك بالصيغة الاسمية .
ومن فوائدها : تمام قدرة الله جل وعلا حيث إن الخلائق كلها تقوم مرة واحدة بهذه النفخة, وقد قال الله تعالى : (( فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم في الساهرة )) أي على سطح الأرض وظهر الأرض.
ثم قال تعالى :
(( أشرقت الأرض بنور ربها ))
بنور الله الذي هو نوره وليس بنور مخلوق, فإضافة النور إلى الرب عز وجل من باب إضافة الصفة إلى موصوفها, أي أن الله جل وعلا ينير الأرض بنوره " (( بنور ربها )) حين يتجلى لفصل القضاء " حين يتجلى أي يظهر لفصل القضاء ويأتي عز وجل للقضاء بين العباد,
وقد ورد أن الله سبحانه وتعالى ينزل ملائكة في السماء الدنيا حتى تحيط بالخلق, ثم تنزل ملائكة السماء الثانية حتى تحيط بأهل السماء الدنيا, لأن أهل السماء الثانية أكثر من أهل السماء الدنيا, إذ أن السماء الثانية أوسع من السماء الدنيا فيكون سكانها أكثر, ثم ينزل أهل السماء الثالثة فيحيطون بمن قبلهم, وهم أكثر من أهل السماء الثانية وهلم جرا إلى السماء السابعة, قال الله تعالى : (( وجاء ربك والملك صفا صفا )) وقال تعالى : (( ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا )) نزل أي نزلوا شيئا فشيئا أهل السماء الدنيا ثم الثانية ثم الثالثة إلى السابعة, وتشقق السماء بالغمام قال أهل العلم : أن هذا الغمام هو الذي يأتي بين يدي إتيان الله عز وجل. غمام عظيم لا نعلم قدره ولا نعلم كيفيته. ولهذا قال : (( تشقق السماء )) ولم يقل : تنشق, بل تشقق كأنه شيء ينبعث منها شيئا فشيئا, وسيكون هذا عظيما, وذلك بين يدي مجيء الرب جل وعلا, ثم ينزل سبحانه وتعالى للقضاء بين العباد, وحينئذ تشرق الأرض بنور ربها, ولا نستطيع الآن أن نتصور كيف هذا الإشراق وكيف هذا النور وكيف هذا الغمام, هو أمر لا تدركه عقولنا الآن.
ثم يقول : " (( ووضع الكتاب ))
كتاب الأعمال للحساب " ووضع أي وضع بين أيدي الناس, قال الله تعالى: (( ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا )) هذا الكتاب كتب فيه أعمال العباد, من خير أو شر, إلا ما انمحى بالمغفرة أو بالتوبة فإنه لا يدرك الكتاب, فالصغائر مثلا تكتب, فإذا صلى الإنسان فإن الصلوات الخمس يمحوا الله بهن الخطايا, وربما يتوب الإنسان من سيئات أخرى فهذه أيضا لا تدرك الكتاب, لا يوجد في الكتاب إلا ما واجه الإنسان به ربه, وكان ختم عليه في حياته.
ثم قال الله تبارك وتعالى (( ووفيت كل نفس ما عملت ))
وفيت: أي أعطيت وفاء, كما تقول : وفيته حقه أي أعطيته إياه وفاء
(( ووفيت كل نفس بما عملت وهو أعلم بما يفعلون )) هو الضمير يعود على الله عز وجل, يعني كأن قائلا يقول : كيف يعلم ما عملت النفس وقد مضت دهور ودهور ؟ وفي العمل الدقيق والجليل ؟ فقال : (( وهو )) أي الله (( أعلم بما يفعلون )) يعني لا يخفى عليه شيء, وهو سبحانه وتعالى لا يضل ولا ينسى, فلا يمكن أن يفوت شيء من عمل الإنسان.
[وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ]
فهم أبعد الناس عن رحمة الله, وقال لهم حزنتها موبخين ومقررين: ألم يأتكم رسل منكم,
يعني لا من غيركم, لو أرسل الله إلى البشر ملائكة لكانوا ينفرون (( قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين )) لما قالوا : أين الملائكة ؟ قال الله تعالى : (( قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا )) لكن ليس من الحكمة أن ينزل للبشر ملك (( ولو جعلناه ملكا )) لو أنزل الله ملك, لو فرض أن الله يرسل للبشر ملكا (( لجعلناه رجلا )) أي على صورة الرجل, حتى لا ينفروا منه.
وهنا يقول : (( يأتكم رسل منكم )) وهذا أبلغ من أنفسكم (( منكم )) فمحمد عليه الصلاة والسلام ممن ؟ من قريش من بني هاشم يعرفونه ويعرفون أباه ويعرفون أجداده ويصفونه بالأمين ويثقون به, وحكموه حين اختصموا في وضع الحجر في مكانه بالكعبة, حتى حكم فيهم ذلك الحكم العدل , ولما جاءهم بالبينات قالوا : هذا الساحر هذا الكذاب هذا المجنون هذا الكاهن هذا الشاعر, سبحان الله, فهو رجل منهم يعرفونه, لكن الاستكبار يأبى أن يقول الحق (( يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمت العذاب على الكافرين ))
نعوذ بالله
ومن فوائد هذه الآية الكريمة :
أن أهل النار يفاجئون بها فمن حين إتيانهم تفتح ليكون ذلك أشد مباغتة وأشد حرارة والعياذ بالله فلا يمكنون من الصبر عنها طرفة عين مع أنهم يودون أنها لا تفتح ولكن الأمر على خلاف ما يودون تفتح فورا .
ومن فوائد الآية الكريمة :
أن للنار أبوابا لقوله : (( فتحت أبوابها )) .
ومن فوائده الآية الكريمة :
أن النار مظلمة بعيدة
القعر يؤخذ من اسمها في قوله : (( جهنم )) .
ومن فوائد الآية الكريمة :
كمال تنظيم الله سبحانه وتعالى للخلق حيث جعل للنار خزنة وللجنة خزنة وهنا يقول : (( وقال لهم خزنتها ألم يأتكم )) .
ومن فوائد الآية الكريمة :
أن هؤلاء الخزنة ينطقون كما ينطق البشر بخطاب مفهوم.
ومن فوائد الآية الكريمة :
اجتماع العذاب القلبي والبدني على أهل النار أما البدني فظاهر وأما القلبي فما يحصل لهم من التوبيخ والتقريع في قوله : (( ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم )) وأنتم تعلمون أن من الناس من يحب أن يوسع جلده ضربا ولا يوبخ بكلمة واحدة فالتوبيخ ليس بالأمر الهين لاسيما في مثل هذه الحال لأنهم إذا ذكروا بهذه النعمة في حال لا يتمكنون من استدراك ما فات كان ذلك أشد حسرة والعياذ بالله .
ومن فوائد الآية الكريمة : تمام الحجة على بني آدم بإرسال الرسل منهم لقوله : (( رسل منكم )) لأنه لو كانوا من غير الجنس لم تتم الحجة لكن إذا كانوا من الجنس بل من القبيلة تمت الحجة .
قال الله تبارك وتعالى :
(( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا ))
من فوائد الآية الكريمة :
أن التقوى سبب لدخول الجنة لقوله : (( الذين اتقوا ربهم ))
ومن فوائد هذه الآية : أن أهل الجنة يدخلونها جماعات متفرقة لقوله : (( زمرا )) وهذه الجماعات يترتب تقديمها على حسب أعمالهم الصالحة .
ومن فوائد هذه الآية الكريمة : أن أهل الجنة إذا جاءوها لا يجدونها مفتوحة الأبواب لقوله : (( حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها )) ولكن يجدونها مغلقة حتى يشفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فتح أبواب الجنة لداخليها.
ومن فوائد هذه الآية الكريمة : أن للجنة أبوبا, وقد ثبت في الصحيح أن أبوابها ثمانية.
ويترتب على هذه الفائدة ما ثبت من أن رحمة الله تعالى سبقت غضبه, وأن عطاءه أكبر وأعظم من منعه لأن أبواب النار سبعة وأبواب الجنة ثمانية .
ومن فوائد هذه الآية الكريمة : إثبات أن للجنة خزنة لقوله : (( وقال لهم خزنتها )) فيتفرع على ذلك أو يتفرع على هذه الفائدة كمال تقدير الله سبحانه وتعالى للأشياء وأن كل الأشياء منظمة محفوظة مرتبة .
ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات أن الملائكة ينطقون ويتكلمون لقوله : (( وقال لهم خزنتها )).
ومن فوائدها : أن الجنة دار السلام السلام من كل آفة لقول الخزنة : (( سلام عليكم )).
ومن فوائدها : أن الله جمع لهم أي لأهل الجنة بين السلامة من الآفات وطيب الأحوال والأوقات لقوله: (( سلام عليكم طبتم )) فجمع لهم بين نفي الآفات وطيب الأحوال والأوقات .
ومن فوائدها أي فوائد الآية الكريمة : الإذن لهم على وجه الإكرام بدخول الجنة لقوله : (( فادخلوها خالدين ))
ومن فوائدها: الفرق التام والتباين العظيم بين ما يقابل به أهل الجنة وأهل النار, أهل النار يقابلون بالتوبيخ (( ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم ... )) إلى آخره, وأهل الجنة يقابلون بالتكريم والعناية والبشرى : (( سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين )) .
ومن فوائد هذه الآية الكريمة : خلود أهل الجنة فيها لقوله : (( فادخلوها خالدين )) والخلود هذا خلود أبدي سواء قلنا : إن الخلود هو المكث الدائم أو إن الخلود هو المكث زمنا طويلا, وذلك لأنه قد تكرر ذكر التأبيد لأهل الجنة في عدة آيات.
(( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين )) .
من فوائد هذه الآية الكريمة : الثناء على الله عز وجل بالكمال والإفضال لقوله : (( الذي صدقنا وعده )) فإن صدق الوعد كمال, ثم إن إيراثهم الجنة إفضال. فجمعوا في هذا الحمد بين الحمد على الكمال والحمد على الإفضال. لأن الله تعالى يحمد على الأمرين جميعا على كماله وعلى إفضاله, فيكون هذا الحمد جامعاً بين الحمد والشكر .
ومن فوائد هذه الآية الكريمة : صدق الله وعده لقوله : (( الذي صدقنا وعده )) وقد أخبر الله تعالى في آيات متعددة أنه لا يخلف الميعاد, وذلك لكمال صدقه وكمال قدرته, فإن إخلاف الوعد إما أن يكون لكذب الواعد وإما أن يكون لعجز الواعد, وكلاهما مما ينزه الله عنه فيكون فيه كمال الصدق وكمال القدرة .
ومن فوائد هذه الآية الكريمة : شكر أهل الجنة على إيراثهم الأرض ونصرهم وظهورهم على الكافرين لقوله : (( وأورثنا الأرض )) .
[وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]
من فوائدها : إظهار عظمة الله في ذلك اليوم حيث تحف جنوده بعرشه وهذا من مظاهر العظمة وكمال السلطان أن يرى الجنود حافين بمالكهم وخالقهم وسيدهم سبحانه وتعالى .
ومن فوائد الآية الكريمة : إثبات العرش لقوله : (( من حول العرش )) .
ومن فوائد الآية الكريمة : الثناء على الملائكة وذلك بحسن انتظامهم بحفهم من حول العرش, وهذا حسن فعلي, وبكونهم يسبحون الله بحمده وهذا حسن قولي, فيجمعون بين تعظيم الله تعالى بالفعل وتعظيمه بالقول .
ومن فوائد الآية الكريمة : اختيار الجمع بين التسبيح والحمد لقوله : (( يسبحون بحمد ربهم )) وذلك لأن بالتسبيح زوال النقص والعيب, وبالحمد إثبات الكمال طيب .
ومن فوائد الآية الكريمة : أن الله سبحانه وتعالى رب لهؤلاء الملائكة مع عظمهم لقوله : (( يسبحون بحمد ربهم)) وأن ربوبيته للملائكة ربوبية خاصة بدليل الإضافة .
ومن فوائد الآية الكريمة : أن الله تعالى يقضي بعد هذا كله بين الخلق بالعدل لقوله تعالى : (( وقضي بينهم بالحق )) أي حكم بينهم.
والحمد لله رب العالمين...
تم بحمد الله تفسير سورة الزمر .. كما نسأله أن يتم نعمته وأن يغفر لنا ذنوبنا التي حالت بين كثير من بركاته..
وخطابا شهوات ذهبت بقلوبنا عن تدبر آياته، ونرجوه ألاّ يحرمنا خير ماعنده بشر ماعندنا..
المراجع:
١/ تفسير سورة الزمر : الشيخ : ابن عثيمين رحمه الله
٢/ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: عبد الرحمن السعدي-رحمه الله
٣/ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
٤/ تفسير القرآن العظيم : ابن كثير
٥/ أضواء القرآن في إيضاح القرآن بالقرآن : محمد الأمين الشنقيطي
٦/ أيسر التفاسير : أبو بكر الجزائري
٧/ المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج: النووي
٨/ صحيح الترغيب والترهيب : الألباني
٩/ شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين
١٠/ حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: ابن قيم الجوزية..
~[ بحمد الله وتوفيقه 💭
💫جميع لقاءات
لطائف الدرر في تفسير سورة الزمر .~
والتي تم تدارسها في غرفة إيلاف التابعة لشبكة بحور الدعوية ✨
جمعناها لكم لتكون مرجعاً وزاداً لجلساتكم التدبرية
مع الأهل
مع الأصدقاء
مع الجيران..
لتتدبري وتسعدي مع كتاب الله🍃
http://www.b-da3wiya.com/vb/showthread.php?goto=newpost&t=13581
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق