الأربعاء، 24 سبتمبر 2014

تفريغ تأملات في آيات الحج من سورة البقرة🍃

* بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأشهد أن ﻻ إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد. .

 فهذه تأملات ووقفات مع آيات كريمات مباركات في سورة البقرة اشتملت على بيان جملة كبيرة من أحكام الحج وحِكمه العظيمة وما اشتمل عليه من دروس بالغات وعظات عظيمات بدء من قول الله تبارك وتعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ ) [سورة البقرة : 196] وانتهاء بقوله عز وجل (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [سورة البقرة : 203] .

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [سورة البقرة : 196]

هذه الآية الأولى من جملة ثمان آيات اشتمل عليها هذا الموضع المبارك من سورة البقرة في بيان أحكام الحجّ العظيمة وحِكمه البالغة .

 بدأ الله عز وجل اﻵيات الكريمات بقوله جل في علاه (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ ) وهذا فيه أمر بإتمام الحج وأمر باﻹخلاص فيه لله تبارك وتعالى ويكون هذا البدء قد اشتمل على أصلين عظيمين وأساسين متينين يقوم عليهما الحج بل يقوم عليهما الدين كله وهما: اﻹخلاص للمعبود والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم .

أما اﻹخلاص ففي قوله جل في علاه (لِلَّهِ) أي مخلصين عملكم وحجّكم وعُمرتكم لله تبارك وتعالى، ﻻ تبتغون بأدائه إﻻ وجه الله ﻻ رياء وﻻ سمعة وﻻ شهرة وﻻ مِدحت الناس وﻻ إرادة الدنيا وﻻ غير ذلك، وإنما تبتغون به وجه الله عز وجل والله تبارك وتعالى ﻻ يقبل العمل إلا إذا كان خالصا لوجهه جل وعلا كما قال عز وجل في الحديث القدسي {أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه} أي لم يقبل الله منه عملا.

واﻷمر الثاني مما اشتمل عليه هذا الموضع: اﻻتباع للرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه وذلك مستفاد من قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ)  ومعلوم أن التمام ﻻ سبيل إلى نيله وﻻ طريق إلى تحصيله إﻻ بسلوك نهج النبي الكريم عليه الصلاة والسلام والسير على منهاجه القويم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وقد قال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع {لتأخذوا عني مناسككم} فلا يمكن ﻷحد أن يُتمّ الحج بأركانه وواجباته ومستحباته إﻻ بمعرفة هدي النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ومنهاجه القويم .

فإذا قول الله عز وجل (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ ) فيه تنبيه على اﻹخلاص للمعبود والمتابعة للرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى هذين الأمرين يقوم الحجّ وتقوم جميع العبادات والطاعات.

ثم قال جل وعلا (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي إذا حال بينكم وبين إتمام الحجّ وبلوغ أماكن الحج والوصول إلى مكة والمناسك لأداء الحجّ، حال بينكم وبين ذلك حائل، منعكم من ذلك مانع وهو على الصحيح يشمل: حصر العدو أو المرض أو فقدان النفقة أو الضياع في الطريق أو غير ذلك ﻷن الله عز وجل قال (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) ولمّا يُعين أويخُصّ بعدُو أو نحو ذلك فيكون شاملا لكل إحصار. فإذا أُحصر المرء عن الحجّ بعدو أو بمرض أو بفقدان نفقة أو بضياع في الطريق أو غير ذلك فإن الحكم كما قال الله عز وجل ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) يُذبح في المكان الذي أُحصِر المرء فيه ويُطعم ، يُعطى للفقراء والمساكين.

واختلف أهل العِلم فيمن لم يجد الهدِي هل ينتقل للصيام كما هو الشأن في هدي التمتع أو أنه يسقط ولا شيء عليه؟

والذي جاء في الآية الكريمة هو ذِكر ما استيسر من الهدِي. وقوله جل وعلا (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)  يتناول الهدِي إن كان من الإبل أو البقر ويشترك في الإبل والبقر سبعة أو من الماعز والضأن، وهذه كلها بهيمة الأنعام فالهدِي يكون من الأزواج الثمانية وهي الإبل والبقر والماعز والضأن ذكورها وإناثها، هذه ثمانية منها يكون الهدي فإن كان بقرة اشترك فيها سبعة وإن كان من الإبل اشترك فيها سبعة وإن كان شاة أو ضأنا فإن الشاة إنما تُجزئ عن الواحد وكذلك الضأن.

قال جل وعلا (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) وهذا فيه أن من دخل في النُسُك ولبى الحجّ أو العمرة أو بهما معا فإن عليه محذورات منها ألاّ يأخذ من شعره شيء حتى يوم النحر (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ولهذا حَلق الشعر السُنّة فيه أن يكون بعد النحر كما فعل نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام في يوم الأضحى -يوم النحر- رمى ثم نحر ثم حَلَق ثم طاف ثم سعى، فأتى الحلق بعد النحر لكن لو قُدِر أن عبدا قدم شيئا من هذه الأشياء على الآخر لا حرج عليه في ذلك لكن الأولى أن يؤتى بها مرتبة بهذا الترتيب ومن ذلكم أن يكون حلق الرأس بعد نحر الهدِي كما فعل النبي الكريم عليه الصلاة والسلام .

ويُفيد قوله (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) أن الإنسان ليس له أن يأخذ من شعر رأسه ولا أيضا من شعر بدنه ولا أيضا من أظافره، هذه كلها من محذورات الإحرام ليس له أن يأخذ شيئا من ذلك حتى يتحلل التحلُل الأول في يوم النحر -يوم عيد الأضحى المبارك- .

ثم قال سبحانه وتعالى (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ) أي واحتاج إلى بسبب المرض أو بسبب الأذى الذي في الرأس كأن يكون في رأسه قمل أو نحو ذلك مثلا يحتاج إلى أن يحلِق شعر رأسه، ومثله -مثلا- لو احتاج أن يُغطي رأسه أو احتاج بسبب المرض أن يلبس مخِيطا أو نحو ذلكم من محذورات الإحرام فإن كان احتاج لشيء من ذلك بسبب المرض أو الأذى في الرأس فله ذلك لكن عليه فدية الأذى كما قال سبحانه وتعالى (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وما كان فيه "أو" فهو على التخيير كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، فهو مُخير بين هذه الأمور الثلاثة (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وهذه رُخصة من الله عز وجل للعباد وأن يحلِ إن احتاج إلى الحلق بسبب المرض أو الأذى الذي في الرأس أو نحو ذلك وجُعلت له الفدية وتُسمّى هذه الفدية فدية الأذى، وبدأ جل وعلا بالأيسر صيام ثلاثة أيام ثم انتقل إلى الإطعام -إطعام ستة مساكين- لكل مسكين نصف صاع ونصف الصاع مُدين من الطعام يُعطى لستة مساكين، ثم بعد ذلك ذكر جل وعلا ذبح شاة، وما كان من طعام أو نُسُك فهو لفقراء الحرم، أما الصيام إن تيسر أن يصوم صيام الفدية في مكة أو يصومه في بلده فيما بعد لكن الطعام لا يكون في البلد وكذلك النُسُك لا يكون في البلد إنما هو لفقراء الحرم خاصة، فما كان من طعام أو نُسُك فهو لفقراء الحرم .

 وقوله تعالى (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) يُفسره حديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه لما قال له النبي عليه الصلاة والسلام: أيؤذيك هوامّ رأسك؟ -كان القمل يتساقط من شعر رأسه من كثرته- وتأذى منه وكان مُحرِما فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:{احلق رأسك ثم قال له:أتجد شاة؟ قال:لا، قال: أطعِم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أو صُم ثلاثة أيام} لاحظ الترتيب الذي جاء في    الحديث عكس الترتيب الذي في الآية لأنه في الآية لما كان رُخصة ذكر الله عز وجل أو بدأ بالأسهل، بدأ ذلك بالأسهل، والنبي عليه الصلاة والسلام لما كان عملا يوجه له هذا الصحابي بدأ معه بالأفضل إن كان مُتيسرا له، فإن كان مُتيسرا الشاة فهو الأفضل، إن لم تتيسر الشاة إطعام ستة مساكين أفضل، إن لم يتيسر ذلك يصوم ثلاثة أيام، وعلى كلٍ هو مُخير بين هذه الأمور الثلاثة فدية للأذى. وهذه الفدية تكون بسبب مرض أو نحوه أن يحلِق رأسه أو يأخذ شيئا من شعر بدنه أو يُغطي رأسه أو يلبس شيئا من المخيط أو يكون -مثلا- مسّ طيبا أو نحو ذلكم من محظورا الإحرام.

ثم قال جل وعلا (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) وقوله (فَإِذَا أَمِنْتُمْ) أي لم يحصل لكم إحصار ولم يحصل لكم ولم يحصل لكم مانع ولم يحصل لكم شيء يحول بينكم وبين الوصول إلى أداء المناسك ويسر الله لكم ذلك (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ومعنى قوله (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) أي من جمع بين حجّ وعمرة سواء كان مُتمتعا أي تحلل بين العمرة والحج أو كان قارنا فكل من هؤلاء يكون مُتمتع بالمعنى العام أي جمع في سفرة واحدة بين حجٍّ وعُمرة فقوله (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ) هذا يتناول المُتمتِع ويتناول القارن وأن من كان مُتمتعا أو كان قارِنا فعليه هدِي وهذا الهدِي هدي شُكر، هدي شُكران وليس هدي جُبران، هدي شُكر لله سبحانه وتعالى على مِنّة التيسير والتوفيق للجمع بين الحجّ والعمرة في سفرة واحدة. ولهذا فمن حجّ مُفرِدا ولم يعتمر ليس عليه هدي، ومن اعتمر ورجع دون أن يحُجّ ليس عليه هدي لكن من جمع بين حجّ وعمرة في سفرة واحدة سواء كان مُتمتعا أو قارنا فإن عليه ما استيسر من الهدي. وقوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) يشمل ما تقدم،الأزواج الثمانية -الإبل والبقر والضأن والماعز- ذكورا أو إناثا، ما استيسر له من ذلك يذبحه في مِنى أو في مكة يوم العيد أو أيام التشريق الثلاثة فكلها أيام ذبح وأيام نحر .

قال جل وعلا (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ)  أي لم يجد هديا ليس لديه قدرة مالية، لا يتمكن من الذبح ينتقل إلى الصيام (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) ومعنى (فِي الْحَجِّ) أي في وقت الحجّ وأولى ما يكون ذلك في اليوم السادس والسابع والثامن، ويوم عرفة يُكره صيامه للمُحرِّم فبصوم من قبل عرفة -السادس والسابع والثامن- أو قبل ذلك الخامس والسادس والسابع، إن لم يتمكن فرُخِّص له أن يصوم أيام التشريق الثلاثة، قد جاء في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُرخِّص صيام أيام التشريق الثلاثة إلا لمن لم يجد الهدي فله رُخصة أن يصوم لكن الأولى أن يصوم قبل ذلك فإن لم يتمكن صام في أيام التشريق الثلاثة -الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر- (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) رجعتم إلى أوطانكم -إلى بلادكم- وقوله (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) لا يُشترط فيها التتابع سواء صامها مُتتابعة أو مُتفرقة لا حرج عليه في ذلك.

(تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) الثلاثة التي في الحج والسبعة التي إذا رجع إلى أهله عددها عشرة أيام كاملة، وقوله (كَامِلَةٌ) هذا للتأكيد وكثيرا ما يُستعمل التأكيد في لسان العرب، مثلا تقول رأيت بعيني، سمعت بأذني، كتبت بيدي ونحو ذلك فتأتي كلمات يُراد بها التأكيد (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) .

ثم قال جل وعلا (ذَٰلِكَ) أي ما استيسر من الهدي ثم الانتقال منه -إذا لم يكن مُستطيعا- إلى الصيام -صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع- (ذَٰلِكَ  لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي من كان من أهل مكة ليس عليه هدي ولا انتقال أيضا إلى الصيام وإنما هذا للأفقي الذي جاء من الأفق، جاء من البلدان المختلفة إلى مكة وفي سفرة واحدة أكرمه الله سبحانه وتعالى بالجمع بين حج وعمرة، أما الذي في مكة لم يُسافر جُمع له بين الحجّ والعُمرة ولم يُنشئ لذلك سفرا مثل الأفقي ولهذا قيل إن هذا الهدي هدي شُكر لأن الله منّ عليه في هذه السفرة الواحدة أن جمع بين النُسُكين العظيمين -الحجّ والعمرة-.

ثم ختم جل وعلا هذا السياق العظيم المبارك بالوصية بتقواه جلّ في عُلاه قال (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي بفعل ما أمر وترك ما نهى الله عنه وزجر، اتقوا الله بأن تجعلوا بينكم وبين سخط الله وعقابه وقاية تقيكم وذلك بفعل الأوامر وترك النواهي ولهذا من أحسن ما عُرِّفت به التقوى قول أحد التابعين "تقوى الله عملٌ بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله وترك لمعصية الله على نور من الله خيفة عذاب الله " وأمره جل وعلا بتقواه في هذا السياق يشمل تقواه بلزوم أحكام الحجّ والعناية بها، وأيضا البُعد عن المحظورات والمنهيات التي يُنهى عنها العبد فإن القيام بذلك وتتميمه كله من تتميم تقوى الله سبحانه وتعالى.

 وقد تكررت الوصية بالتقوى في آيات الحجّ -كما سيأتي معنا- تكررت الوصية بالتقوى مما يدل على أن من مقاصد الحجّ العظيمة وغاياته الجليلة تحقيق تقوى الله سبحانه وتعالى وتمرين النفس على لزوم تقوى الله عز وجل بفعل أوامره وترك نواهيه. ولهذا يُعدّ الحجّ مدرسة عظيمة لتمرين النفس وترويضها على تحقيق تقوى الله سبحانه وتعالى.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) إياكم وأن تفعلوا ما يُسخط الله ويُغضبه جل وعلا فإن عقابه شديد، ومن كان يستحضر شدة عذاب الله وعقابه فإن هذا فيه أعظم زاجر ورادع عن فعل الذنوب واقترافها.

/ (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [سورة البقرة : 197]

ثم قال جل وعلا  (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) أي أن الحجّ له وقت معلوم ،محدد، له أشهُر معلومات لا تُعقد النية بالحجّ إلا في أشهُره، فقبل أشهر الحج لا تنعقد النية بالحجّ لأن أشهره لم تدخُل فيكون كالصلاة قبل وقتها، وبعد انقضاء أشهر الحجّ لا تنعقد النية لأن أشهر الحجّ انتهت فـ (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) أي وقت الحج أشهر معلومات وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. تبدأ أشهر الحجّ بليلة عيد الفطر المبارك، في آخر يوم من رمضان لا تعقد النية بالحجّ، وإذا هلّ هلال العيد -هلال عيد شوال- لك أن تعقِد النية لأنها بدأت أشهُر الحجّ أو لأن أشهر الحجّ تبدأ بأول ليلة من ليالي شوال وهي ليلة العيد -عيد الفطر المبارك- وتنتهي أشهر الحجّ بليلة عيد الأضحى المبارك فهي تبدأ بليلة عيد وتنتهي بليلة عيد، تنتهي بليلة عيد الأضحى، وليلة عيد الأضحى يستطيع الإنسان أن يعقد فيها النية بالحجّ لكن إذا طلع الفجر من يوم النحر فات الحجّ لكن لو قُدّر أن الإنسان بعرفة قبل طلوع الفجر بساعة قال لبيك اللهم حجّا ووقف بعرفة ثم مضى إلى مزدلفة وكمّل أعمال حجه يكون أدرك الحجّ. فأشهر الحج التي تنعقد فيها النية تبدأ من ليلة عيد الفطر المبارك إلى ليلة عيد الأضحى المبارك.

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) والحجّ لا يُفرض إلا فيهن (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) فيه أن الحج لا يُفرض إلا في هذا الوقت، وفيه أن من عقد النية وجب عليه الإتمام حتى لو كان نفلا لأنه أصبح فرضا بعقد النية. (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ  فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) وهذه أمور ومحظورات ينبغي على الحاجّ أن يحذر منها أشد الحذر وهي تتنافى مع إتمام الحجّ الذي أُمر به في صدر هذا السياق (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ) فيحذر من هذه المحظورات ويجتنبها.

(فَلَا رَفَثَ) والرفث هو الجِماع ومُقدماته قال عز وجل (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) الرفث: هو الجماع. ومقدمات النظر من نظر أو لمس أو ضم أو تقبيل أو نحو ذلك، كل هذه تكون محظورة على المُحرِم.

(فَلَا رَفَثَ  وَلَا فُسُوقَ) والفسوق هو: المعاصي بكل أنواعها وأيضا يدخل تحت قوله (وَلَا فُسُوقَ) الإصرار على فعل المعصية وإن لم يُباشر فعلها في فترة الحجّ فمثلا لو أن شخصا عنده معصية ما من المعاصي يفعلها وتوقف عن فعلها في فترة الحجّ لكن نيته في الداخل أنه إذا رجع إلى بلده يعود إلى تلك المعصية، هذا يُعدّ فُسوقا ولهذا ينبغي على الحاجّ أن يتجنب الفسوق وذلك بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى من الذنوب والمعاصي وقد جاء في الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام {من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه}أي بلا ذنب ولا خطيئة. إذا قوله جل وعلا (وَلَا فُسُوقَ) هذا فيه أن الحاجّ يجب عليه أن يتخذ الحجّ فرصة للخلاص من الذنوب وتركها والبُعد عنها مُستعينا بالله تبارك وتعالى على ذلك.

وقوله تعالى (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) والجدال هو: اللجج والخصومة والمنازعة ورفع الأصوات ويدخل في ذلك السِباب والشتائم وغير ذلك، هذا كله من الأمور التي ينبغي على الحاجّ أن يحذر منها أشد الحذر.

ولما نهى عن هذه الأمور سبحانه وتعالى دعا عباده إلى فِعل الخيرات بأبوابها المتنوعة ومجالاتها الفسيحة كما يُفيده التعميم في قوله جل وعلا (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) فإن قوله (مِنْ خَيْرٍ) هذا فيه تنصيص على العموم أي أي خير أمر الله به وأمر به رسوله صلوات الله وسلامه عليه. ولهذا ينبغي على الحاج أن يغتنم فرصة حجه لفعل الخيرات تسبيح وتهليل وذكر وقراءة قرآن وصدقات وغير ذلك من أبواب الخير (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) هذا يتناول أبواب الخيرات المتنوعة وأن الحاجّ ينبغي أن يستغل هذه الحالة المباركة والأوقات المباركة والبِقاع المباركة يستغلها في الإكثار من الخيرات ومن ذلكم أيضا قراءة العِلم ، مسائل العِلم سواء في أحكام الحجّ أو غير ذلك من أحكام الدين ولا سيما أصول الاعتقاد ومُهمات الدين وقواعده العظيمة.

 ثم قال جل وعلا (يَعْلَمْهُ اللَّهُ) وهذا فيه فائدة عظيمة عندما تفعل الخيراستذكر واستحضر رؤية الله لك واطلاعه عليك وعلمه بك وهذا العِلم يقتضي المثوبة مثوبة المُحسن ومُجازاته بإحسانه وأن هذه الأعمال التي تقوم بها قليله وكثيرها رب العالمين مُطلِع عليها وعليم بها سبحانه وتعالى (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) ولا يضيع عنده سبحانه وتعالى أجر المُحسنين فإن الله لا يُضيع أجر المُحسنين أحسن واجتهد في الإحسان وفعل الخيرات.

 ثم قال سبحانه (وَتَزَوَّدُوا) وهذا أمر لمن أراد أن يحُجّ بأن يأخذ الزاد معه وما يحتاج إليه من مال أو من طعام أو نفقة حتى لا يكون عالة على الآخرين وحتى لا يحتاج أن يسأل الناس. وقد ذُكِر أن هذه الآية نزلت في نفر من أهل اليمن حجوا ولم يأخذوا معهم زادا وقالوا نحن المتوكلون فأنزل الله قوله (وَتَزَوَّدُوا) وهذا فيه أمر بأخذ الزاد من طعام وشراب ونفقة حتى لا يحتاج الإنسان أن يتعرض لسؤال الناس أعطوه أو منعوه.

ولما أمر جل وعلا بأخذ الزاد الدنيوي من طعام وشراب وشراب ونفقة حث ونبه عباده على أعظم زاد، نبه عباده على أعظم زاد لنيل رضوان الله تبارك وتعالى وهو تقوى الله جلا وعلا (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ) تزودوا لحجّكم، خذوا لحجكم النفقة، الطعام،الأشياء التي تحتاجون إليها من أمور الدنيا في الحجّ لكن انتبهوا أعظم زاد وأنفع زاد وخير زاد تقوى الله جل وعلا (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ) خير زاد تتزود منه وتستكثر منه وتعتني به هو تقوى الله سبحانه وتعالى، وتقوى الله عز وجل هي خير زاد يُبلِّغ إلى رضوان الله وهي وصية الله للأولين والآخرين من خلقه كم قال جل وعلا (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) وهي وصية النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لأمته، وهي وصية السلف الصالح رحمهم الله فيما بينهم. فتقوى الله جل وعلا هي خير زاد يُبلِّغ إلى رضوان الله. ثم ختم ذلك بالأمر بتقواه (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (وَاتَّقُونِ) هذا أمر بتقوى الله جل وعلا. ومرّ معنا أن الأمر بتقواه تكرر في هذه الآيات الثمان ففي الآية الأولى أمر بتقواه، وفي الآية الأخيرة من هذه الآيات أمر بتقواه (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) وفي أثناء هذه الآيات كما في هذه الآية التي معنا أمر بتقواه، فالأمر بتقوى الله عز وجل في هذه الآيات الثمان جاء في الآية الأولى وجاء في الآية الأخيرة وجاء أيضا في أثناء هذه الآيات مما يدل على عِظم شأن التقوى ومكانته العظيمة وأنه من مقاصد الحجّ العظيمة التي ينبغي أن يحرص عليها كل حاجّ أن يُحقق تقوى الله سبحانه وتعالى بفعل ما أمر وترك ما نهى عنه وزجر.

وقوله عز وجل في ختم هذا السياق  (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) أي يا أولي العقول السليمة والنُهى الُمستقيمة احرصوا على تحقيق تقوى الله وهذا فيه أن أولي الألباب هم الذين ينتفعون بالمواعظ ويرتدعون عند سماع الزواجر بخلاف غيرهم فصاحب اللُّب السليم والكيّس الفطِن العاقل هو الذي ينتفع أما من سواه فإنه لا ينتفع، إذا ذُكر لا يتذكر وإذا وُعِظ لا يتعظ وإذا زُجِر لا ينزجر إلا إذا وفقه الله عز وجل لأن يكون ذا لُبٍ سليم فإنه ينتبه ويتعظ وينزجر.

/ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [سورة البقرة : 198]

هذه الآية الكريمة اشتملت على جملة من الأحكام المتعلقة بالحجّ بدأها جلّ في عُلاه (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) أي لا حرج ولا إثم ولا يؤثر على حجِكم أن تبتغوا فضلا من ربكم، يعني لا يمنع مجيء الإنسان إلى الحجّ أن يشتغل بالتجارة التي تعود عليه بشيء من الرزق فإن اشتغاله بها إذا لم تكن مخِلة أو مؤثرة على أعمال الحجّ نفسه فلا حرج عليه في ذلك (أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) وهذا أيضا فيه تنبيه على عدم الاعتماد على الأسباب، إذا اشتغل الإنسان بشيء من التجارة لا يعتمد على الأسباب وإنما الرزق فضل من الله فلا يعتمد على الأسباب ولا يعتمد على مهارته أو معرفته أو حِذقه، لا يعتمد على ذلك. بل حصول الربح وتحقق الفائدة ونيل المنفعة هذا فضل من الله سبحانه وتعالى ولهذا قال (أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) وهذا فيه التنبيه على أن المُشتغِل بالتجارة سواء في أثناء الحجّ أو في كل وقت ينبغي أن يكون متوكلا على الله وراجي الفضل من الله سبحانه وتعالى، يبذل الأسباب، يتخذ التجارة الصحيحة التي لا محذور فيها ويرجو من الله سبحانه وتعالى أن يتفضل عليه جل وعلا بالرزق.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) وهذا فيه من الأحكام أن من أعمال الحجّ العظيمة الوقوف بعرفة بل هو ركن من أركان الحجّ والتنبيه على هذا الركن بذكر الإفاضة منه (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) ولا تكون الإفاضة إلا بعد الوقوف فقوله (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) هذا فيه تنبيه على الوقوف بعرفة، والوقوف بعرفة ركن من أركان الحجّ، قد صحّ في الحديث عن نبينا صلوات الله وسلامه وبركاته عليه أنه قال {الحجّ عرفة} ومن فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحجّ فعرفة هو ركن الحجّ الأعظم الذي من فاته فقد فاته الحجّ. والوقوف بعرفة يكون إلى غروب الشمس كما فعل نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، الوقوف بعرفة والإفاضة منها لا يكون إلا بعد غروب الشمس من يوم عرفة فإذا أفاض الإنسان من عرفات قبل الغروب فإنه بذلك يكون ترك واجبا من واجبات حجّه لأن النبي عليه الصلاة والسلام وقف إلى أن غربت الشمس وقال {لتأخذوا عني مناسككم} .

وقوله جلّ وعلا (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) والمشعر الحرام مُزدلفة والمبيت بمزدلفة ليلة النحر واجب من واجبات الحجّ.

وقوله (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) يتناول الصلوات المفروضة التي تكون في المشعر وهي ثلاث صلوات المغرب والعشاء جمعا أول ما يصل ويقصِر العشاء بأذان واحد وإقامتين هذا من ذكر الله، وأيضا صلاة الفجر في المُزدلفة هذا أيضا من ذكر الله، داخل في قوله (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)، ما يتيسر للإنسان من صلاة من اللي إذا كان مُعتادا لذلك داخل، قراءته لما تيسر من القرآن أو ذكره لله سبحانه وتعالى كله داخل، أيضا الوقوف بعد صلاة الفجر إلى ما قبل طلوع الشمس وهذا من المواطن العظيمة التي يتحرى فيها الحاجّ الذكر والدعاء ويرفع يديه كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام مُستقبلا القبلة ذاكرا وداعيا ومُناجيا ربه سبحانه وتعالى، هذا كله داخل في قوله (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) .

وقوله (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) فيه أن مُزدلفة من الحرم -داخلة في الحرم- أما عرفات فهي خارج الحرم ولهذا أخذ أهل العلم من هذه الآية أن عرفات ليست من الحرم بل هي من الحِل ومزدلفة من الحرم لأنه قيّد، لما جاء ذكر المشعر الذي هو مُزدلفة قيّد أما عرفات لم يُقيّد فهو من الحِل وليس من الحرم.

( فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) وهذا تنبيه على مقصد عظيم آخر من مقاصد الحجّ الجليلة وهي أن تذكر مِنّة الله عليك بالهداية وإنقاذه لك من الضلالة وأن هذا فضل الله عليك ومِنّته سبحانه وتعالى. قد كان الصحب الكرام رضي الله عنهم يقولون في رجزهم يقولون: لولا الله ما اهتدينا ولا صُمنا ولا صلينا، فهذه مِنّة الله عليك أن جعلك من المُصلين، أن جعلك من الصائمين، أن جعلك من حُجاج بيته الحرام وأن هداك إلى هذه المناسك وهذه الشعائر وهذه الأعمال العظيمة فاذكر يا عبد الله وأنت تؤدي هذه الشعائر وتقوم بهذه الأعمال مِنة الله عليك بذلك وهدايته لك ومِنته عليك بأداء هذه الأعمال، كم من إنسان في الدنيا يتمنى أن يحجّ فاذكر نعمة الله عليك، اذكر هداية الله لك، اذكر تيسير الله سبحانه وتعالى (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) لولا هداية الله لك ومِنته عليك بالهداية لكنت من الضالين لكن الله هداك، منّ عليك، أكرمك، والهداية بيد الله سبحانه وتعالى يمُنّ بها على من يشاء فإن الله يُضل من يشاء ويهدي من يشاء. فهذا مقصد من مقاصد الحج العظيمة الجليلة أن تذكر هداية الله لك، هداية الله لك للإسلام ولهذا الدين، وهداية الله لك للقيام بطاعته سبحانه وتعالى وهداية الله لك للزوم أمره واجتناب ما نهى عنه وفِعل ما أمر به سبحانه تعالى وهداية الله لك للقيام بهذه المشاعر العظيمة والطاعات الجليلة (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) .

/ (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة البقرة : 199] 

قال جل وعلا (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) والإفاضة هنا هي الإفاضة من المُزدلفة إلى مِنى وتكون هذه الإفاضة بعد صلاة الفجر وبعد أن يقف الإنسان ذاكرا وداعيا ومُناجيا ربه إلى ما قبل طلوع الشمس بقليل -إلى أن تُسفِر قبل أن تطلُع الشمس- يُفيض الناس إلى مِنى، ورخّص النبي عليه الصلاة والسلام للضعفة والنساء رخّص لهم عليه الصلاة والسلام أن يُفيضوا بعد مُنتصف الليل من ليلة مُزدلفة، لكن من كان نشيطا وصحيحا وقويا يبقى إلى أن يُصلي للفجر ويقف في المشعر الحرام ثم يُفيض إلى مِنى للقيام بأعمال يوم النحر.

 (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) (مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)عرفنا أن الإفاضة هنا هي الإفاضة من مزدلفة إلى مِنى للقيام بأعمال يوم النحر، وأعمال يوم النحر هي -على الترتيب- : رمي ثم نحر ثم حلق ثم طواف ثم سعي، على هذا الترتيب كما فعلها النبي عليه الصلاة والسلام. إذا قوله (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) أي أفيضوا إلى مِنى للقيام بأعمال يوم النحر العظيمة وهي هذه الأعمال المباركة ويكون بذلك انتهى الإنسان من الأعمال وتحلل ورجع إلى لباسه المُعتاد فعليه حينئذ أن يُكثر من الاستغفار، أتمّ العمل وكمّله فليُكثر من الاستغفار، ومن هدي النبي الكريم عليه الصلاة والسلام أنه في تمام العمل يُكثر من الاستغفار، وانظر إلى مثال ذلك في الصلاة جاء عنه عليه الصلاة والسلام الاستغفار في خاتمة الصلاة قبل أن يُسلِّم والاستغفار في خاتمة الصلاة بعد أن يُسلِّم، إذا سلّم استغفر ثلاثا استغفر الله...استغفر الله...استغفر الله. والاستغفار في تمام الحجّ لأن الإنسان في حجّه لا يخلو من شيء من التقصير، لا يخلو شيء من النقص مهما جاهد الإنسان على تكميل الحجّ وتتميم العمل لابد من النقص فشُرع لك في تمام حجِّك أن تُكثر من الاستغفار لأن الاستغفار من شأنه أنه يجبر النقص، إذا حصل عندك نقص أو تقصير في بعض الأعمال فالاستغفار يجبر هذا النقص، أكثِر من الاستغفار في خاتمة الحجّ. ولهذا أيضا شُرِع الاستغفار في خاتمة المجلس المعروف بكفارة المجلس لأن هذا فيه جبر لما يقع في مجلس الإنسان من نقص أو خطأ. فالشاهد أن الآية فيها الأمر بالاستغفار في خاتمة الحجّ  (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي اذكروا هذين الإسمين العظيمين وأنتم تستغفرونه سبحانه وتعالى، اذكروا أنه غفور رحيم وأنه غفّار لمن استغفره وتاب إليه وأناب وأنه رحيم سبحانه وتعالى بعباده (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

/ (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) [سورة البقرة : 200]

 وهذه الآية الكريمة يقول الله سبحانه وتعالى فيها (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ) إذا قضيتم مناسككم وأتممتم هذه الأعمال المباركات في يوم النحر الرمي والنحر والحلق والطواف والسعي فاذكروا الله لأن الحجّ فيه رياضة للنفوس وتريب للناس على العناية بالذكر ولهذا تُلاحظ أنه تكرر في أثناء هذه الآيات -آيات الحجّ- تكرر الحث والأمر بالذكر -ذكر الله سبحانه وتعالى- (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ) أتممتم الأعمال في هذا اليوم المبارك -يوم النحر-  الرمي والنحر والحلق والطواف والسعي فاذكروا الله بالكثرة، كثيرا لأن الله قال (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) وهذا فيه تنبيه على ذكر الله بالكثرة، اذكروه ذكرا كثيرا، أكثروا من ذكر الله، لا يشغلكم شاغل عن ذكر الله سبحانه وتعالى بل أكثروا من ذكره سبحانه وتعالى ( كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا).

ثم ذكر جل وعلا أقسام الناس من حيث إلتجائهم إلى الله عز وجل في طلباتهم وحاجاتهم وأنهم على قسمين:

 قسم همُّه في مُناجاته وطلبه من الله عز وجل حظوظ الدنيا فقط ولا همّ له في الآخرة ولا تفكير له في الآخرة كلما سأل يريد سيء من الدنيا، ليس له تفكير ولا همّ ولا طلب فيما يتعلق بالآخرة، إذا طلب يطلب مطالب دنيوية وليس له هِمّة ولا توجُّه ولا سؤال فيما يتعلق بأمور الآخرة قال (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا) كل طلباته حظوظ الدنيا من مركب أو مطعم أو مسكن أو ملبس أو غير ذلك، كل مطالبه في هذا الحدود الأمور النيوية (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) ليس له إهتمام بالآخرة ولا طلب للآخرة ولا تفكير بالآخرة، كل همه وطلباته أمور الدنيا. هذا قسم.

/ القسم الآخر :

 (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [سورة البقرة : 201]

 هذا القسم الثاني وأكرِم بهم ما أعظم شأنهم وما أعظم مطالبهم جمعت مطالب الدنيا والآخرة (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) وهذه الدعوة المباركة العظيمة جمعت الخير كله، خير الدنيا والآخرة وكانت هذه الدعوة كما ثبت في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه كانت أكثر ما يدعو به نبينا عليع الصلاة والسلام، أكثر دعائه ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وشمِلت هذه الدعوة خيري الدنيا والآخرة.

أما قوله  (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) فإنه يدخل فيه كل خير في الدنيا المسكن الطيّب والزوجة الصالحة والمال الطيب والنفقة الطيبة والغذاء والملبس والصحة والعافية ورُفقاء الخير، كل الأمور الطيبة في الدنيا وخيرات الدنيا تدخل، وقد كان بعض السلف إذا عرضت له حاجة دنيوية وأراد أن يسأل الله عز وجل أن يمُنّ عليه بها قال (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) فتدخل حاجته التي هي في ذهنه ويدخل أيضا المطالب الأخرى وخيرات الدنيا والآخرة.

وقوله (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) يتناول كل خير في الآخرة من نجاة من نار ودخول الجنة والفوز بنعيمها ودرجاتها، والفوز برضا الله والفوز بالنظر إليه، كل ذلك يدخل تحت قوله (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) .

 (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) سؤال للنجاة من النار، والله عز وجل يقول ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185] وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام في طوافه بل في تمام كل شوط بين الركنين -الركن اليماني وركن الحجر الأسود- يدعو بهذه الدعوة، ومجيؤها أيضا في هذا الموضع في طواف الزيارة عندما يطوف هذا الطواف العظيم المبارك الذي هو ركن من أركان الحجّ ويصل إلى تمام كل شوط يأتي بهذه الدعوة العظيمة المباركة التي جمعت خير الدنيا والآخرة (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) .

/ (أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [سورة البقرة : 202]

هذه الآية السابعة من هذه الآيات العظيمات المباركات فيها أن هؤلاء الذين هم في القِسم الثاني الذين يقولون في دعائهم (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) في هذه الآية بيان أن هؤلاء هم الذين لهم نصيب ولهم أجر (أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) فهؤلاء هم الذين لهم النصيب ولهم الأجر بخلاف السابقين ليس في الآخرة نصيب ولا حظ (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) أما هؤلاء هم الذين لهم الحظ والنصيب بحسب الأعمال، والناس يتفاوتون في نصيبهم في الآخرة قوة وضعفا، زيادة ونقصا، فكلما زاد العمل الذي هو خالص لله مُتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد النصيب من الأجر والثواب يوم يلقى الله جل وعلا .

/ (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ۚ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [سورة البقرة : 203] قال عز وجل في هذه الآية وهي آخر هذه الآيات المباركات العظيمات في بيان أحكام الحجّ (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) والمراد بالأيام المعدودات عند جمهور أهل العلم أيام التشريق الثلاثة. قد جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنها أيام أكل وشُرب وذِكر لله. فالله عز وجل يقول (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) يوم الحادي عشر ويُسمّى يوم القرّ، والثاني عشر ويُسمى يوم النفر الأول، ويوم الثالث عشر ويُسمى يوم النفر الثاني. هذه هي الأيام المعدودات. أمر الله عز وجل بذكره في هذه الأيام المباركات وفي هذا تنبيه إلى أنها أيام ذِكر ويكون ذكر الله عز وجل في هذه الأيام المعدودات أولا بإقامة الصلوات الخمس في أوقاتها فهذا أعظم الذكر لله سبحانه وتعالى ثم بعد ذلك ما يتبع ذلك من عناية بالذكر تحميدا وتسبيحا وتهليلا وتكبيرا وقراءة للقرآن وسماعا للعلم ومُذاكرة لمسائل علم كل هذا من الذكر لله سبحانه وتعالى ويدخل في ذلك أيضا الذي يكون عند نحر الإنسان وذبحه لبهيمة الأنعام فكل ذلك داخل في الذكر لله سبحانه وتعالى في هذه الأيام المعدودة.

قال عز وجل (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ) من تعجل في يومين أي تعجّل بالانصراف إلى بلده في اليوم الثاني عشر بعد أن يرمي الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس يذهب إلى مكة ويطوف الوداع ويُغادر لا حرج عليه، لا إثم له رخصة في ذلك، ومن تأخر فلا إثم عليه أيضا، لا حرج عليه في ذلك لكن التأخر أفضل لأن فيه زيادة عمل وفيه موافقة لفعل النبي عليه الصلاة والسلام، فإن النبي عليه الصلاة والسلام تأخر فالتأخر أفضل لكن من تعجل لا حرج عليه في ذلك.

(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ) أي أن رفع الإثم عنه مُقيد بهذا القيد تحقيق تقوى الله ومجاهدة النفس على تحقيق تقوى الله عز وجل (لِمَنِ اتَّقَىٰ) أي لمن اتقى الله عز وجل في حجه بفعل ما أمره الله به وترك ما نهاه سبحانه وتعالى عنه. وأخذ بعض أهل العلم منهم جرير الطبري -رحمه الله- من هذه الآية من قوله تعالى(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ) أخذ من هذه الآية المعنى الذي دلّ عليه الحديث وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام {من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه} فأخذ الحافظ بن جرير الطبري -رحمه الله- من قوله (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي أنه يخرج من حجه بلا إثم إذا كان اتقى الله في حجّه، يخرج من حجّه بلا إثم كيوم ولدته أمه أي يخرج من حجه بلا إثم كيوم ولدته أمه إذا كان اتقى الله سبحانه وتعالى في حجّه وتمم حجه فإنه يخرج بلا إثم كما يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام  {من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه}  .

ثم ختم جل وعلا هذا السياق بالأمر بتقواه (وَاتَّقُوا اللَّهَ) وعرفنا أن الأمر بتقوى الله عز وجل تكرر في هذا السياق العظيم المبارك مما يدل على أن من مقاصد الحج العظيمة تحقيق التقوى ومُجاهدة على لزوم تقوى الله تبارك وتعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) والختم بـقوله جل وعلا (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيه تنبيه عظيم إلى أن من دروس الحجّ العظيمة المباركة أنه يُذكرك بالحشر، يُذكرك بالوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى بدء من أول أعماله عندما يتجرد الإنسان من المخيط ويغتسل ويتزر بإزار ويرتدي رداء وهذان يُذكران بلباس الكفن، ثم يقف على صعيد عرفة والوقوف على ذلك الصعيد يُذكر بوقوف الناس بين يدي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة. فالحجّ وأعماله من الأمور المٌستفادة والعِبر المُستفادة منه أنه يُذكر باليوم الآخر والحشر والوقوف بين يدي الله فهذا من عِبر الحجّ ودروسه. فإذا هذه فائدة استشعرها الحاجّ في أثناء حجّه أن الحجّ يُذكره باليوم الآخر، بالحشر، بالوقوف بين يدي الله عز وجل إذا ليستبقي هذه الفائدة معه وليرجع بها إلى بلده وليحافظ على هذا الاستذكار.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ارجعوا إلى أوطانكم، ارجعوا إلى بلدانكم لكن تذكروا أن الذي جمعكم على هذه الأرض -أرض عرفات- سيجمعكم على أرض المحشر يوم القيامة للحساب ليجزي الذين أساؤا بما عملوا.

 أليس هؤلاء الناس الذين اجتمعوا في أرض عرفات هم كانوا في أنحاء الدنيا وفي أصقاعها وفي أماكن مختلفة؟! وفي يوم واحد وساعة واحد وعشية واحدة جمعهم أجمعين في هذه الأرض فالذي جمعهم في هذه الأرض سيجمع الأولين والآخرين على أرض المحشر يوم القيامة. تذكروا ذلك وخذوا هذه العِبرة وارجعوا بها إلى بلدانكم من حجكم متذكرين أنكم ستُحشرون إلى الله، كما وقفتم على صعيد عرفة واجتمعتم في ذلك الصعيد المبارك أيضا ستُحشرون حشرا يجمع الأولين والآخرين تذكروا ذلك وارجعوا إلى بلدانكم وأنتم تتذكرون هذا الأمر العظيم (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) وإذا كان العبد على ذِكر بأنه سيُحشر وأنه سيقف بين يدي الله عز وجل فإن هذا من أعظم الأبواب المُعينة على صلاح العمل لكن من غفِل عن الآخرة وغفل عن ذكر الحشر والوقوف بين يدي الله عز وجل ألهته الدنيا وشغلته عن الطاعة والقيام بعبادة الله سبحانه وتعالى. ولهذا يوم القيامة يحمد من كان يذكر الحشر في الدنيا ويستذكره ويتكرر ذكره في ذهنه فيكون سببا لصلاح عمله واستقامته على طاعة ربه، يحمد العاقبة يوم القيامة (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ* فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) فإذا كان الإنسان على ذكر من ذلك مثل أيضا من يؤتى بكتابه باليمين يقول (إِنِّي ظَنَنتُ) أي اعتقدت (أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ) فهذا الأمر أمر عظيم جدا ينبغي للإنسان أن يكون مُتذكرا له والحجّ يعتبر مدرسة في التذكير باليوم الآخر والتذكير بالوقوف بين يدي الله. ولهذا لما انتهت أعمال الحجّ وبانتهاء أعمال الحج في أيام التشريق جاءت هذه الوصية العظيمة للإنسان يأخذها معه وهو راجع إلى بلده (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) .

أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينفعنا أجمعين بما علّمنا وأن يزيدنا علما وأن يُصلح لنا شأننا كله وأن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنه تبارك وتعالى غفور رحيم.

________________________________

*محاضرة ألقيت في المسجد النبوي بتاريخ/ 28-11-1434هـ

الشيخ/ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

                                       



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق